المقال “في الدرج”: رئاسة مرسي بين المقطم و المنيل .. و الأنيل

July 14, 2012 by
Filed under: Articles 


بقلم
د. نضـــال صـــقر

دخلت مصر حقبة تاريخية جديدة عادت فيها إلى بؤرة الإهتمام العالمي بتنصيب أول رئيس منتخب في تاريخها.  على الرغم من الريادة الحضارية لمصر عبر قرون طويلة، و نبوغ أبنائها في أبواب كثيرة من علوم و نظرية الدولة في السياسة و القانون و الإقتصاد، إلا أن هذا الكنز المعرفي لم يجد طريقه للتطبيق في دولة ديموقراطية حديثة حتى الآن.  على مدى عقود شرفت بصداقة و تتلمذت على يد مجموعة من آباء الفكر في الإقتصاد كأستاذي الجليل محمود أبو السعود، و في السياسة كالدكتور محمود خيري عيسى، و في الحوار الحضاري كالدكتور حسان حتحوت، و في الدبلوماسية كالأستاذ كامل الشريف رحمهم الله جميعاً، و في الفقه الحضاري كالدكتور سيد دسوقي حفظه الله، و غيرهم ممن إستفادت دول و نظم كثيرة من غزير علمهم في حين حرمت مصر من جزيل عطائهم.  أقولها و بكل وضوح أن مصر لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم من مرحلة بداية ريادة التاريخ الحديث لولا هذا المخزون الهائل الذي تربت عليه أجيال من المثقفين و المبدعين.  مصر اليوم هي أحوج ما تكون إلى الفكر المنظومي العميق، الذي يصل حاضرها بمستقبلها، و يؤسس نهضتها على اساس منظومة قيمية مجتمعية حضارية تصقل طاقاتها حتى تصل إلى الريادة الحضارية المنشودة.
وصول الدكتور مرسي إلى سدة الرئاسة كشف عن نموذج فريد من الشخصية المصرية الريفية البسيطة المتسلحة بأحدث العلوم من مؤسسات
غربية رائدة، المعبرة عن أفضل ما في الشخصية المصرية المتدينة الفطرية.  إلا أنه من الواضح أن إنعدام البديل في ظل الجاهزية السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، التي تربى في أحضانها، كان عاملاً رئيسياً في فوز د. مرسي بمقعد الرئاسة.  الواقع الحضاري الإنساني اليوم لا يختلف كثيراً عن الواقع المصري، فالمشروع الحضاري الإنساني الذي يمكن أن تحمله مصر اليوم يطرح نفسه في ظل إنتفاء و إنهزام المشاريع الحضارية البديلة.  أنا مع التنافسية و تعدد البدائل و الأطروحات لما تؤدي إليه التنافسية من إرتقاء في الفكر و تطور في الأداء.  بعيداً عن المفاجآت السارة و حالة الإنبهار التي يعيشها الناس من إكتشاف شخصية الدكتور مرسي و حقيقته، أقول أنه لا بد لنا من الإلتفات إلى المنظومة الفكرية و القيمية التي تقدم لنا هذه النماذج المبهرة التي نراها في د. مرسي و من قبله د. الكتاتني و العديد العديد من القيادات الوطنية سواء في جماعة الإخوان أو غيرها.

في البداية لا بد من الإشارة أن المشهد السياسي في مصر اليوم، بإستثناء وصول مرسي إلى سدة الرئاسة، لا يليق بمصر و ثورتها و حضارتها و مستقبلها بأي حال من الأحوال.  سنستعرض في هذا البحث أين نحن اليوم، و كيف وصلنا إلى ما نحن فيه، الأطراف التي ساهمت في وصولنا إلى ما وصلنا إليه و غيرها من الأطراف، و كيفية الخروج من المأزق.

عانت مصر تحت النظام البائد من إنعدام المؤسسية و تفشي الإرتجالية و العشوائية في إدارة الدولة، في حين إقتصر الأداء الإحترافي و الإستراتيجي على إدارة منظومة الفساد و إستنزاف مقدرات الدولة و ثرواتها حتى الرمق الأخير.  ثقافة “إدارة العزبة” التي إنتهجها النظام في حقيقة الأمر أصابت المجتمع المصري بداء عضال، حيث أصبح “الهوس بالتكويش” ثقافة عامة في صراع البقاء لم يسلم منها أحد في المجتمع بما فيها القوى السياسية و الأحزاب.
عقلية “إدارة العزبة” تتنافى و إرساء المؤسسية.  و حيث أن التحدي الأكبر الذي يواجه مصر الحديثة هو إعادة بناء دولة المؤسسات و إدارة مؤسسات الدولة على أساس الإحترافية و الكفاءة دون الركون إلى أهل الثقة أو ثقافة التكويش، فإنه من الواجب إستئصال ثقافة “إدارة العزبة” التي لا تقل خطورة بأي حال من الأحوال عن ثقافة الفساد.  بل إن في واقع الأمر ثقافة العزبة هي بحد ذاتها وجه من ثقافة الفساد و الإفساد التي تهدد المجتمع و الدولة الحديثة على حد سواء.

منذ اليوم الأول لتنحي النظام المخلوع كنت أصررت على ضرورة مأسسة كل من العمل السياسي و المجتمعي.  خرجنا من الثورة بطاقة ثورية مجتمعية تمتلك مقومات الحضارة التي يمكن توظيفها في صياغة المشروع الحضاري الإنساني لتلعب مصر فيه دور الريادة.  و كان لا بد للقوى السياسية “الجاهزة” و على رأسها جماعة الإخوان المسلمين أن تتبنى مشروعاً وطنياً لإنضاج العمل السياسي و التعددية السياسية على أساس من الوطنية لإثراء المشروع الوطني.  نعم تناقشت مطولاً مع قيادات في الجماعة و تيارات أخرى منذ اليوم الأول بعد التنحي حول ضرورة إحتضان القوى السياسية و الثورية، و حول المسؤولية الوطنية التي تتحملها جماعة الإخوان في إنضاج قوى الطيف السياسي و بالذات الحركات الشبابية و الثورية.  في إعتقادي أن بداية المشكلة كانت في عدم توفر إرادة لدى مختلف القوى للعمل بشكل منظومي لإنجاح مشروع الثورة، و يكمن الخلل في قراءة مغلوطة للمشهد برمته لدى جميع القوى، و عدم وضوح الرؤيا للأولويات الثورية و الوطنية.  قراءة المشهد بصورة شمولية و تحليلية، في نفس الوقت، التي أصر عليها دائماً كنقطة بداية أي لقاء و حوار سياسي أو تنسيقي، تتطلب بالضرورة منهجية في التفكير و وضوح مستمر في الرؤيا في ظل مشهد متقلب و متطور بشكل ديناميكي متسارع يتجاوز مجرد التنظير الأكاديمي أو الخطابة السياسية.  عدم وضوح الرؤيا للمشروع الوطني و ملامحه و مراحله و أولوياته كان و ما زال نقطة الضعف الأخطر لدى جميع القوى و التيارات الوطنية و الشبابية و الثورية على حد سواء.

في ذات الوقت، الذي عزفت فيه “القوى الأم” عن إحتضان القوى الحديثة و الصاعدة، تواجدت المنظمات الأجنبية بكثافة في أرجاء القاهرة للإجتماع بهذه القوى الشبابية و الثورية في محاولة لإستقطاب و توجيه هذه القوى لأغراض تخدم سياسات الدول التي تتبعها هذه المنظمات.  بعدها كان ما كان من وقوع البلد في دائرة الإستقطاب السياسي حول الموقف من التعديلات الدستورية.  هذه الحالة التي لعبت السفيرة الأمريكية آن باترسون، بدءاً من موقعها كمديرة للملف المصري بالخارجية الأمريكية، دوراً رئيسياً في صناعة حالة الإستقطاب، من خلال بعض الجهات المعاونة كالغرفة التجارية المصرية الأمريكية و رجل الأعمال نجيب ساويرس و منظومة السقوط الإعلامي المسماة الإعلام المستقل.  من أخطر التهديدات للوحدة الوطنية و المشروع الوطني كان ظهور مجموعة من أسوأ من أنجبت مصر من طابور خامس من مدعي الفقه الدستوري و القانون، من أصحاب العقليات المشوهة و الهوية المتناقضة و الأمراض و العقد النفسية، نعلمها جميعاً.  هذا الطابور الخامس لم يكن له اي دور سوى تلويث ثقافة ما بعد الثورة من خلال المحاولات المستميتة.  هذا الطابور الخامس في حقيقة الأمر لا يجمعه سوى حب الظهور و العداء للهوية و هو عبارة عن عصابة ما فتأت تحرض المجتمع المصري و قواه السياسية على بعض، ثم الإصرار على الوقيعة بين الشعب و المجلس العسكري و معاداة الهوية الإسلامية للمجتمع، و إستهداف ما يسمى بالقوى الإسلامية و جماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص.  هذه العصابة من ترزية القوانين هي في حقيقة الأمر ما أحال الخلاف الديموقراطي حول التعديلات إلى حالة إنقسام سياسي غذاه الوثائق المختلفة للإنقلاب على الدستور و التعديل الدستوري و محاولة إضفاء صفة فوق دستورية على المؤسسة العسكرية، و الإنقلاب على اللجنة التأسيسية للدستور، و أخيراً على الهيئة الشرعية المنتخبة المتمثلة بمجلس الشعب.  كما و إشتركت هذه العصابة أخيراً في إستدراج المجلس العسكري إلى الخطيئة التاريخية المسماة بالإعلان الدستوري المكمل.
للحقيقة و للإنصاف أن عصابة المخرفين هذه لم تكن لتنجح في تعطيل المشروع الوطني لولا الأداء المزري و إستشراء ثقافة “إدارة العزبة” في الفصائل و القوى الوطنية.  منذ اليوم الأول لم تعطي “إدارة العزبة” أولوية لمسؤولياتها الرئيسية و أستدرجت إلى حالة الإنقسام و الإستقطاب و إكتوت بداء رد الفعل.  الفصيل الكبير الناضج الواعي يجب أن يكون بوصلة العمل الوطني التي تقود المجتمع للخروج من المطبات و الأزمات لا أن يسقط في الحفر التي يصطنعها غيره، و لا أقول خصومه.  الجماعة الوطنية الإخوان المسلمين ليس لها خصوم و لا يجب أن يكون لها خصوم مهما إختلف معها فرقاء العمل الوطني.  التعددية السياسية إثراء للعمل الوطني بما فيه الجماعات الوطنية و القوى السياسية، و إنضاج التعددية السياسية هي من أول أولويات الجماعة الوطنية الناضجة الراسخة المتمثلة بجماعة الإخوان، و بالطبع لا تعدو الجماعة سوى كونها مكون رئيس من الجماعة الوطنية.
كما يعلم الفرقاء تربطني بمختلف الأطراف الفاعلة على الساحة المصرية علاقة عضوية من الولاء و الإنتماء لهذه الأطراف أياً كانت مساحة الإتفاق أو الإختلاف السياسي.  منذ اليوم الأول ناديت بغرفة عمليات مشتركة بين مختلف القوى الوطنية و الثورية لإدارة المشهد السياسي و معالجة الأزمات.  العمل الوطني المشترك في رأيي كان يجب أن يتم بمعزل عن الحراك السياسي و الإنتخابي المتمثل بالتحالف الديموقراطي و غيره من التحالفات.
منذ البداية وضحنا الإعتبارات المختلفة للمؤسسة العسكرية و إقترحنا خارطة طريق لإدارة إستراتيجية للعلاقة مع المؤسسة العسكرية بما يضمن المصلحة العليا في البلاد دونما أي تغول على الدستور و المؤسسية في الدولة الديموقراطية.  معركة إستعراض العضلات التي تعيشها مصر منذ زيارة ماكين المشؤومة في بداية العام الحالي هي في واقع الأمر صراع بين إدارات العزبة لا تعني المشروع الوطني المصري بأي حال من الأحوال.  و بصراحة فإن ما يعني مصر و شعبها هو النهوض بالدولة و إعادة بناء مؤسساتها من خلال سلطاتها الشرعية المنتخبة المتمثلة في البرلمان و مؤسسة الرئاسة و الدستور، و لا يعنينا بأية حال الصراعات و تصفية الحسابات بين العسكري و مجموعة المخرفين المتمسحين بالدستور، التي لا تفتأ تطبل و تزمر للمجلس العسكري و تخلق المستنقعات للصيد في الماء العكر من جهة، و بين قيادات و رموز وطنية إخوانية كانت أو غير إخوانية.

الفكر المنظومي الإستراتيجي:
أي مشروع أو عملية بناء تقوم على منهجية فكرية من التفكير الإستراتيجي: تبدأ بالتصور للشكل و المضمون و التجربة.  يرتبط بهذا التصور مجموعة من الأهداف و الأغراض التي يهدف هذا التصور إلى تحقيقها. ثم تبدأ صياغة المراحل و الآليات لتنفيذ المشروع بدءأً من التصميم إلى حسابات المواصفات و المدخلات إلى البرنامج الزمني للمراحل إلى الإهتمام بالتفاصيل و توظيف الظروف و الإمكانيات، إستنباط الحلول للمشاكل و التعامل مع المتغيرات المتوقعة و غير المتوقعة، المراجعة المستمرة للعملية برمتها و تطوير المراحل و الأداء و الإفادة من التكاملية في المراحل التي تتيح توفير الموارد و عدم تكرير المجهودات، و صولاً إلى إكتمال البناء الخارجي، ثم تفاصيل البناء الداخلي ثم الشكل و التحسينات و اللمسات التجميلية و الديكورات.
هذه العملية ليست إلا مثالاً و نموذجاً للتفكير الإستراتيجي المنظومي للبناء، و إنجاز المشروعات لا يختلف كثيراً في منهجيته عن إعادة بناء الدولة و المؤسسات.  الغريب في الأمر أن الكثير من اللاعبين المؤثرين في المشهد هم من المهندسين الذين لم تنعكس منهجية التفكير الهندسي لا على أدائهم و لا منهجية تفكيرهم، على ما يبدو، بأي شكل من الأشكال.

أجد اليوم لزاماً على مختلف أطراف المشهد و على رأسها جماعة الإخوان إعادة إستذكار الدروس.  هناك كم هائل من الكتابات القيمة التي نشرها الكتاب و المفكرين في مناقشة المشلكة المصرية.  إلا أنني متأثراً بعقلية “العزبة” سأشير إلى منظومة من التفكير الإستراتيجي  للوصول من الحالة الثورية السائلة إلى دولة مصرية مؤسسية حديثة حضارية رائدة كنت نشرتها في سلسلة من الوثائق الإستراتيجية و الأبحاث للإستنارة بها في إدارة مرحلة ما بعد التنحي.  المهم في هذه الكتابات أنها إقترنت جميعها بإنخراط كامل في المشهد الميداني و السياسي و حتى البحثي و الأكاديمي على حد سواء.  أخص من هذه المجموعة التي بدأت منذ قبل التنحي بل و بعضها قبيل الثورة:

في 9 فبراير 2011: المشروع السياسي لثورة الأحرار في مصر
فبراير15 2011: إنتصـــرت الثـــورة…و ماذا بعـــد
فبراير 24 2011: خارطـة طــريق مصــر ما بعد الثــورة
مارس 12 2011: مصر بين العبث السياسي و بناء الدولة
مارس 16 2011: موقف الشــرعية الثــورية من التعديلات الدستورية
مارس 22 2011: هنيـــئاً لمصـــر…و لكن
مارس 24 2011: أزمـة الأوطــان بين السلطة و بين الإخــوان
مارس 28 2011: مصـــر: بين فلول الثــــــورة و فلول النظام
أكتوبر 25 2011: مصر بين الطوارئ.. و الطوارئ… و الطوارئ
ديسمبر 2 2011: يُحكى أنَ … كان فيه ثورة
يناير 12 2012: ظاهرة شباب الثورة، و معركة البحث عن الهوية
و أخيراً، 25 يونية 2012: مصر الديموقراطية و أولويات بناء الدولة

لا بد من الإعتراف بأن مضمون هذه الكتابات كلها، بالإضافة إلى غيرها، كان منذ قبل النشر و ما زال مطروحا أمام الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي على شكل حلول و توصيات لم يتم التعامل معها بشكل منظومي أحياناً، و بتجاهل تام أحياناً أخرى، و هذا سبب رئيسي في الحالة المزرية الراهنة التي أوصلتنا إليها عقلية “إدارة العزبة” المتفشية في أطراف عدة.

تشخيص المشكلة:
حذرت منذ اليوم الأول من خطورة العامل الأمريكي على المشهد المصري بتفاصيله، و وضعت تصورات واضحة لكيفية التعامل مع العامل الأمريكي بما يخدم المصلحة المصرية من جميع جوانبها، و بما يؤسس لمرحلة إعادة صياغة أمريكا لمفهومها للعلاقات و المصالح و يعالج الخلل العضوي في العقيدة السياسية الأمريكية.
لا بد من الإعتراف أن السذاجة في التعامل مع الطرف الأمريكي، على الرغم من شرح و توضيح خطورته و كيفية التعامل معه في أكثر من إجتماع و مناسبة، هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن المأزق الذي تعيشه مصر اليوم.  بكل صراحة هذه المسؤولية لا تقع بكاملها على المجلس العسكري المرتبط عضوياً بالنفوذ الأمريكي، و إنما أيضاً على أطراف فاعلة و مؤثرة في المشهد بشكل واضح أولاً، و بالطبع على مجموعة الإنتهازيين مفتعلي الوقيعة و الأزمات من المخرفين، الذين لا مكان لهم إلا في إفتعال الأزمات و الوقيعة.
للمجلس العسكري مصالحه و إعتباراته و إرتباطاته و تجربته في إدارة المرحلة الإنتقالية بكل ما إعتراها من أخطاء و أزمات.  لجماعة الإخوان المسلمين كجماعة وطنية أساس إنتخب الشعب مرشحيها للسلطات المختلفة إعتبارات لاتخرج و لا يجب أن تخرج بأي حال من الأحوال عن المصلحة الجمعية للوطن.  للشعب و تياراته و طوائفه و قواه السياسية و الحزبية إعتباراته أيضاً.  إلا أن المؤسسية العسكرية و الإخوان و الشعب هم في حقيقة الأمر مصر، و النسيج المصري الذي لا يكاد تتباين ألوانه و أطيافه و توجهاته كلما تعلق الأمر بالوطن و مصلحة الوطن و التفاني في حب و خدمة الوطن.

الإستقطاب في مصر، أيها السادة، حالة شاذة غير مصرية.  حضارية مصر لا تقبل و لا تسمح أن يتحول التباين في وجهات النظر و الخلاف إلى إستقطاب و صراع سياسي و صراع مصالح على تقاسم التورتة.

المخرج من المأزق:
إستقلالية و صلاحيات الجهات الشرعية المنتخبة خط أحمر لا يجب و لا يمكن خضوعه للإبتزاز و تصفية الحسابات بين أطراف المشهد السياسي.  أخطأ المجلس العسكري بالإنصياع لحفنة المطبلين بإستخدام الإنقلاب على الشرعية كأداة تصفية حسابات.  كذلك أخطأت أطراف و قوى وطنية عدة في إساءة قراءة الكارت الأمريكي و السماح له بالتاثير على المشهد الداخلي و العلاقات و التعاملات مع أطراف داخلية.  الوضع في مصر اليوم شاذ و معيب تمثل في إدارة جهة غير منتخبة للمرحلة الإنتقالية و إصدار المجلس العسكري هذا لمجموعة من الإعلانات الدستورية و المراسيم بعضها معيب شرعياً و دستوريا و بعضها يتجاوز إختصاصه و شرعيته و حتى التفويض الذي منحه لنفسه و لم يمنحه الشعب له أو لغيره.  هناك أيضاً تورط جهات قضائية في الإستقطاب السياسي من ناحية، و في مجالات خارجة عن إختصاصها، و تغول هذه الجهات القضائية في صراعات سياسية غير قانونية تستوجب بالضرورة إما حلها أو حتى عزل بعض رؤساء و أعضاء الهيئات القضائية التي تورطت في الإنقلاب على الدستورية و الشرعية و الإختصاص و مبدأ فصل السلطات. 

يبقى أن نتذكر جميعاً أن شرعية و سلطة المجلس العسكري إقتصرت أولاً على ما أستفتي عليه الشعب من بنود في 19 مارس 2011، و أنه لا شرعية لسلطته فيما عداها من بنود إشتمل عليها إعلانه الدستوري في 30 مارس من نفس العام.  ثانياً أن شرعية المجلس العسكري كسلطة تشريع إنتهت بإنعقاد السلطة التشريعية المنتخبة.  و ثالثاً أنه بتعطيل الدستور المعمول به في بيان المجلس العسكري الأول بعد التنحي أصبحت المحكمة الدستورية منعدمة الإختصاص أصلاً للفصل بدستورية النصوص لإنعدام الدستور الذي تقيس عليه من الأساس، و من ثم فإنها تحولت إلى فصيل سياسي يعتدي على الدستور بإلباس الدستورية لقرارات و مواقف سياسية بحتة، و لإرتهان أحكامها لإرادة سلطة تنفيذية غير منتخبة تغولت على سلطة تشريعية منتخبة، بإرادة شعبية حرة، و سلبتها صميم إختصاصها في التشريع، الذي يخضع له القضاء نفسه لحين الحكم بعدم دستورية النص من هيئة قضائية مختصة إستناداً إلى نص دستوري نافذ معمول به و مستفتى عليه شعبياً، و ليس مجرد أمر إداري غير مستفتى عليه صادر عن جهة غير منتخبة.

الأزمة مع العسكري:
بإنتخاب الرئيس و مباشرته سلطاته يصبح المجلس العسكري خاضعاً لسلطات رئيس الدولة.  إلا أنه عند كتابة هذا المقال قبل وضعه “في الدرج”، كنت أسردت الطرح التالي الذي قد يكون بعضه لا يزال مفيداً.
أولاً لا بد من الإشارة أن المؤسسة العسكرية جزء من الدولة و ليست فوق الدولة و تخضع بالضرورة للسلطات الحاكمة من رئيس و سلطة تنفيذية و تشريعية و قضائية.  لا يجوز و لا يجب السماح للمؤسسة العسكرية بلعب دور العراب في إدارة صراعات بين قوى الشعب و فصائله أو بين السلطات على حد سواء.  ما زلنا في حالة ثورية و قيادات المؤسسة العسكرية معينة من النظام السابق و ليست منتخبة، و موقف المؤسسة العسكرية من الأحداث و دورها هو ما يقرر إذا ما كانت المؤسسة العسكرية إمتداد للنظام المخلوع الذي حسم الشعب موقفه منه و مصيره بطريقة ثورية، أم لا.  المؤسسة العسكرية لخطورة مهامها و إختصاصاتها تتمتع بخصوصية تستوجب التعامل معها بمسؤولية وطنية عالية و حرص من ناحية و بشفافية و مؤسسية واضحة من ناحية أخرى.
تجاوز الأزمة مع العسكري يتطلب تشكيل فريق لإدارة الأزمة و الحوار برئاسة رئيس مجلس الشعب المنتخب يعاونه مجموعة من الحكماء و الرموز الوطنية و ممثلين عن الشرعية الشعبية من نواب مجلس الشعب المنتخب، و ينصب الحل على عدم المساس بأي حال من الأحوال بالشرعيات المنتخبة و إعادة صياغة العلاقة بين القطاع العسكري و المدني بما يخدم المصلحة العليا للبلاد دونما تغول على الدستور أو الدولة، أو المكانة الخاصة للقوات المسلحة في المشروع الوطني.  المؤسسة العسكرية كما ذكرت في “ظاهرة شباب الثورة و معركة البحث عن الهوية” في يناير 2012، هي ركن أساس في عملية إعادة بناء الدولة، ليس من خلال التأثير في العملية السياسية و إنما من خلال لعب دور رئيسي في مستقبل مصر كدولة محورية إقليمياً و دولياً على غرار ما أشرت إليه في المقال المذكور :
“و نظراً للتجربة التحررية الفتية في مصر فإنه يعول على الجيش بإنضباطه، و طبيعة مهامه في حراسة الوطن، و كفاءته في التدريب و غيره الكثير من المسؤوليات التي تساهم في معالجة الكثير من المشاكل المتراكمة، و إعادة بناء الوطن.
أذكر منها، على سبيل المثال، الدور المؤمل للجيش في إعداد أجيال قتالية لحماية الوطن في مواجهة أعداء الخارج من خلال إستيعاب كافة الشباب في سن التجنيد، و تدريبهم تدريباً عسكرياً نوعياً طوال فترة التجنيد، يجري صقله بعد التسريح بشكل دوري لفترة ينخرط فيها المسرحين في جيش إحتياطي لسن يتم تحديدها بقانون.  كما يمكن للجيش و بشراكة مع القطاع الخاص، و بناء على دراسات بحثية ميداينة إستراتيجية، تطوير برامج إعادة تأهيل لتزويد المجندين بالمهارات و الخبرات المطلوبة في سوق العمل في كل من القطاعات السائدة و المستحدثة، يجري بعدها توظيف المتدربين في الأعمال المتدربين لها بعد تسريحهم من الخدمة العسكرية بما يسهم في الحد من مشكلة البطالة المضافة إلى حد كبير.
نظراً للحالة المتردية للبنية التحتية و الفترة الزمنية التي يحتاجها تحويل النظام الإداري المدني من نظام روتيني فاشل و عاجز إلى نظام إحترافي فاعل، يمكن التعويل على الإمكانيات الهندسية العسكرية لإنجاز بعض من مشاريع البنية التحتية التي لا تحتمل التأخير.”

الشعب صاحب السلطة:
ختاماً أذكر بأن الشعب هو فعلاً صاحب و مصدر السلطات جميعها، بعد الله سبحانه.  و أن الكلمة الفاصلة هي ملك للشعب لا لمجلس معين و لا حتى هيئة محكمة  معينة، ولقوانين يضعها الشعب نفسه و ليس ترزية قوانين نظام بائد.  الشعب قال كلمته و إنتخب ممثليه كما إنتخب رئيسه.  مجرد الإقتراب من خيار الإرادة الشعبية جنون غير مسؤول و لا يعنيني كم النياشين و الرتب على الصدور و الأكتاف، و لا بد من العودة عن التورط في السير وراء المخرفين.
المقطم هو اليوم مقر جماعة وطنية رئيسية يعول عليها للنهوض بالمجتمع قيمياً و حضارياً، منهجاً و سلوكاً.  المنيل هو مقر الحزب صاحب الأكثرية في مصر اليوم، و الذي أثق أن إستقلاله سياسياً و إدارياً، و ليس تربوياً أو منهجياً، عن المقطم سيتيح له التطور و إحتضان الفرقاء و العمل سوياً لإنضاج المشروع الوطني و إنجاحه.

أما الأنيل، فأترك لخيالك التحليق بين أحياء عاصمة المعز القديم منها و الحديث … و متوسط الحداثة.

الإتفاق و الإختلاف هو جزء من السياسة، أما الإنقلاب على إرادة الشعب و إستدراج السلطات إلى التورط في الإستقطاب السياسي فهي خروج على الوطن و مشروعه، و هو مايعد في السياسة و القانون خيانة.  الإصطفاف الوطني الذي نشهده اليوم بين مختلف القوى و الوطنية و الثورية و الشبابية الفاعلة يؤكد أن مصر و ثورتها ما زالت في عنفوانها و عافيتها، و أن مشروع الثورة و إستكمالها يسير جنباً إلى جنب مع البناء الديموقراطي للدولة.

الرئيس المصري نموذجاً:
محمد مرسي اليوم هو النموذج الحضاري في الحكم الذي يليق بمصر تاريخاً و شعباً.  إنجاح تجربة مرسي هي الأولوية القصوى لجميع المصريين.  أي تحليل علمي لمرسي كشخصية و كتاريخ و كقيادة يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه النموذج القادر على توحيد كل المصريين ضمن هوية جمعية حضارية لا تعرف لا الفرقة و لا التفريق و لا التمييز و لا الغبن و التغول و الظلم.  خلفية مرسي الإخوانية تثبت لنا جميعاً كل يوم أنها تعبير عن النسيج المصري لمصر بكل تفاصيلها، و أن مرسي هو فعلاً كل المصريين.  أي مساس أو إنتقاص من مرسي مؤسسة و سلطة و صلاحيات و تعبير عن الإرادة الشعبية هو خط أحمر يحرم على أي جهة المساس به أيا كانت هذه الجهة.  مؤسسة الحكم في مصر المنتخبة اليوم هي جناحان: رئاسة و برلمان، و هما السلطتان الوحيدتان صاحبتا الشرعية الشعبية، و ليس هناك في مصر أي جهة أو سلطة تمثل الشرعية الشعبية سوى هاتين السلطتين المنتخبتين.  الشعب المصري اليوم حر ثائر لا يمكن لأي قوة على وجه الأرض إخضاعه أو إستعباده.
و إني لأسمع مصر كلها اليوم في إستكمال مسيرتها نحو الحرية تهتف “فليعد للشعب مجده … أو ترق منا الدماء”… مجد الشعب اليوم، أيها السادة، هو إرادة شعبية عبر منها أكثر من 30 مليون مصري.

حفظ الله مصر و شعبها و جيشها و دماء أبنائها …
و يا أبناء مصر في مشارف القاهرة و أطرافها إستقيموا .. يرحمكم الله.

Comments

Comments are closed.