يُحكى أنَ … كان فيه ثورة
بقلم:
نضــال صــقر
من الطبيعي جداً و نحن أمة لا تقرأ، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه دايان في معرض شرحه لأسباب هزيمة 67، أن يكون عنوان هذا المقال مدعاة هجوم و تجريح و تشكيك و غيره من السلبيات. و هذا بالتحديد الخطر الأكبر الذي يواجه التجربة المصرية الحضارية التي سطرت بدايتها أحداث ثورة الخامس و العشرين و جمعة الغضب في الثامن و العشرين من يناير على وجه التحديد.
الثورة بين المفهوم و الواقع:
أكرر هنا تحفظي على إستخدام مصطلح ثورة في وصف الحالة المصرية لما يمثله المصطلح من إختزال للتحول الحضاري الشامل و الذي بدأ بإعادة صياغة الإنسان و الشخصية المصرية، و سيمر في مرحلة من إعادة صياغة الهوية الحضارية و الإرتقاء بها إلى إعادة صياغة المسار الحضاري الإنساني. إنتهاء بإستعادة مصر لريادة الركب الحضاري الإنساني، لتقود الإنسانية جمعاء إلى آفاق جديدة من العدل و الحرية و الكرامة الإنسانية. تنشر العدل في الأمم و بين الأمم، و تخرج الطاقات الإنسانية إلى الإبداع و البناء و العمل و الإيجابية. و تقضي فيه على الطبقية و العنصرية و الإستبداد و الإستغلال و الظلم أياً كان و أينما كان. و إذا إعتقد البعض أن تصويري للتجربة المصرية فيه تهويل أو مبالغة أقول إن المستقبل الموعود يبدأ بوصل الماضي المشرق بالحاضر لنرتقي إلى المستقبل. هذا مع التنويه بأن إستحضار الماضي لا بد و أن يعتريه مراجعة للتجربة التاريخية و الإستفادة من دروسها لتلافي ما إعترى الماضي من عثرات
من باب الدقة لا بد أن أشير أن الثورة الوحيدة التي نعيشها تتمثل في أمرين:
أولهما: ثورة إفتراضية في عالم إفتراضي من خلال الشبكات الإجتماعية تختلط و تتصارع فيها الآراء و وجهات النظر، و تسودها فوضى فكرية و عشوائية ثقافية محصلتها جميعاً المزيد من التشويه و التخوين و التناحر و إفساد الحياة الثقافية و السياسية. يتخللها أيضاً دعوات متناثرة إلى فعاليات و أنشطة بعضها فاعل و بناء و كثير منها إما مغرض أو لمصالح ضيقة لمجموعات بعينها أو مدعاة للمزيد من الفوضى و إنحراف البوصلة.
و ثانيهما: ثورة الميدان و هي في غالبها فعاليات إحتجاجية من شباب مخلص ثائر غير راض عن مسار ثورته، سقف طموحاته كثيراً ما يسبق الواقع بمراحل، و أفقه للحل و المشكلة يكاد أن يكون شيئاً من الخيال. و المحصلة هنا أيضاً التشكيك و التخوين و الإنقسام و تعطيل كل من المشروع الوطني و الحضاري للثورة أو قل التجربة المصرية.
إلا أن الثورة هذه على الرغم من سلبياتها تمثل عاملاً هاماً و رئيسياً في الحيلولة دون إطفاء جذوة الثورة و إبقائها متقدة، و هو عامل هام لإبقاء الضغط تجاه إنجاح مشروع الثورة بالمفهوم السياسي و ليس بالضرورة الحضاري. و أهم ما تحتاج هذه الثورة هو الترشيد حتى لا ينقلب الإصرار على المطالب المشروعة إلى إجهاض للثورة يصب في مصلحة القوى المعادية لها داخلياً و خارجياً، و إنقلاب الشعب و حتى بعض الثوار ضد الثورة كما أصبحنا نرى مؤخراً. و حتى لا تتسلل أطراف منشغلة بمصالحها الضيقة و محاولة القفز على الثورة و إختطاف شرعيتها
ماذا يجري في مصر؟
كما أشرت سابقاً، تمثل مصر بالنسبة لشعوب العالم الآن بوابة المستقبل التي تعبر بها شعوب العالم إلى العدل و الحرية و الكرامة الإنسانية في وقت سقطت فيه كل المشاريع الحضارية البديلة. و من يعيش في العديد من المجتمعات بين الشرق و الغرب يدرك تماماً حالة عدم الرضا التي يعانيها الإنسان في كثير من المجتمعات برغم الفروقات الكبيرة في المستويات المعيشية و الرفاه الإقتصادي. و ما الثورات التي تجتاح العالم الغربي بالتحديد سوى شاهد على الضنك الذي يعيشه الغرب بسبب الإحساس بالظلم و الإستغلال في نظم أغلبها ديموقراطية
يغلب على الساحة المصرية تنافس قوتين: إحداهما في دائرة المبادرة و صناعة الحدث و إن كان بشكل غير مباشر و أسميها هنا بالمشروع الأمريكي من ناحية. و من ناحية أخرى هناك قوى وطنية من تيارات و جماعات و أحزاب و قوى سياسية تدور أغلبها في دائرة رد الفعل
المشروع الأمريكي:
المشروع الأمريكي في مصر يتلخص في الحفاظ على الدولة الوظيفية الخادمة للمشروع الأمريكي في المنطقة، و هو ما أشرت إليه سابقاً في ردي على إجتماع مع كبار مسؤولي الخارجية الأمريكة قبيل الثورة بعنوان “أمريكا و العالم الإسلامي: بين الشرعية و الأنظمة و الشعوب“. و مفاد هذا المشروع هو رفض أمريكا لإستقلال القرار المصري عن الهيمنة الأمريكية و إبقاء مصر راس حربة في خدمة المشروع الأمريكي و المصالح الأمريكية و التي يتصدرها المشروع الصهيوني في المنطقة.
الإبقاء على الدولة المصرية الوظيفية من وجهة النظر الأمريكية يقوم على إجهاض التحول الديموقراطي و الحيلولة دون إفراز قيادة شرعية شعبية منتخبة إنتخاباً حراً و نزيهاً.
و يتحقق المشروع الأمريكي لإجهاض الثورة، في نظر صانع القرار الأمريكي، من خلال أي من البدائل التالية:
– إنتخاب رئيس أوالإبقاء على رئيس وزراء من منظومة حكم مبارك، و هو ما يفسر محاولة الدفع بعمر سليمان أو أحمد شفيق لتصدر المشهد و حتى الإعداد لتسويقه شعبياً و سياسياً لخوض أي إنتخابات رئاسية حتى لو تطلب الأمر تزوير النتائج، و خصوصاً إن أمكن الأمر في ظل فراغ دستوري
– إطالة أمد الحكم العسكري لأطول مدة ممكنة لإعادة ترتيب الساحة الداخلية أملاً في إفراز قوى سياسية و ليبرالية تصل إلى السلطة و تمكين نخب سياسية مصطنعة موالية للمشروع الأمريكي، يقابلها محاولات إضعاف القوى الإسلامية و الوطنية من خلال حملة تشكيك و تخوين و إفتعال أزمات و محاولات إستدراج هذه القوى في صدامات دموية كأزمة التحرير و ماسبيرو و غيرها. و إطالة مدة الحكم العسكري هو ما أصرت عليه أمريكا طويلاً و مولت من أجله حملة رفض التعديلات و ما يطالب به الجناح الليبرالي المصنع أمريكياً، على عكس القوى الليبرالية الوطنية
– أما الخيار الثالث فهو الزج بأحد النخب المصطنعة كمرشح أمريكا المدير السابق للوكالة الذرية محمد البرادعي و فرضه إذا لزم الأمر على رأس النظام السياسي. و هو ما ظهر جلياً عندما طالب الرئيس الأمريكي نفسه و العديد من المسؤولين الأمريكيين مؤخراً بتنصيب البرادعي بمجرد أن قام بضعة أشخاص في ميدان التحرير بمسرحية المطالبة به رئيساً كمرشح مزعوم للقوى الثورية
الدور الأمريكي:
يعتبر العامل الأمريكي حتى هذه اللحظة أكثر العوامل تأثيراً على مجريات الأمور في مصر منذ تنحي الرئيس المخلوع، و ذلك من خلال إحتفاظ الجانب الأمريكي بعامل المبادرة إلى حد كبير و تراجع دور القوى الوطنية و الثورية و الشبابية إلى إطار ردود الأفعال في الكثير من الأحيان
و القصة الأمريكية في مصر تعود إلى حوالي عشر سنوات مضت إستحدثت فيها أمريكا العديد من البرامج الحكومية و غير الحكومية للتغلغل في مجتمعات الشرق الأوسط و التأثير على هويتها
تعمل هذه البرامج تحت مسميات عدة كدعم المجتمع المدني و الديموقراطية و المرأة و غيرها من المسميات البراقة، من خلال إستقطاب أكاديميين و سياسيين و ناشطين و روائيين و إعلاميين و رجال أعمال يجمعهم جميعاً حب الذات و المادة و البحث عن صفة و موقع في المشهد الإجتماعي و السياسي. تقوم أمريكا بإعادة تقديم هذه النخب بعد تصنيعها أو إعادة تصنيعها بإضفاء هالة من الإعتراف الأمريكي و الجوائز الأمريكية و الدولية و التقارير الصحفية عليها حتى يخيل للشخص العادي بأن هؤلاء النخب المصطنعة أمريكياً الهامشية فعلياً هي التي صنعت و تصنع التاريخ و الحاضر و المستقبل معاً
على مدى السنين إستخدمت الولايات المتحدة هذه النخب المصطنعة كوسيلة ضغط على الأنطمة، و لكنها لم تنتوي بأي حال من الأحوال أو يخطر ببالها أن توظف هذه النخب لإحداث أي تغيير إصلاحي جذري في مجتمعاتها، و ذلك لإنتفاء المصلحة الأمريكية في إسقاط الأنظمة و تعارضه مع المصلحة الأمريكية القائمة على الدولة الوظيفية للأنظمة الإستبدادية في خدمة المشروع الأمريكي. و كذلك لإدراك الحكومة الأمريكية إفتقار هذه النخب المصطنعة لأي ثقل شعبي أو جماهيري لإحداث التغيير. و من هنا فإن هذه النخب المصطنعة، بإعتمادها على الدعم الأمريكي، ما هي في حقيقة الأمر إلا رديف للأنظمة الديكتاتورية التي تعتمد في بقائها في سدة الحكم على الدعم و التمويل و الشرعية التي تضفيها عليها أمريكا و ليس الشعوب
و لو نظرنا إلى الشرعية الشعبية لهذه النخب المصطنعة لوجدناه إفتراضي في عالم إفتراضي أو إعلامي ما إن ينزل إلى أرض الواقع حتى يرفضه الشعب و يطرده من الحواري و الميادين
و من هنا فإن أي إدعاء لهؤلاء الأشخاص و المجموعات الإفتراضية بدور في مجريات الثورة خارج الفضاء الإفتراضي في الميادين و على أرض الواقع هو مجرد أوهام أو مبالغة تتجاوز الحقيقة بأكثر الكثير
وقفت الإدارة الأمريكية في بداية الثورة موقفاً داعماً للرئيس المخلوع إلى أن أصبح من المؤكد إستحالة إستمراره، ثم تحول هذا الموقف إلى إدعاء زائف بتأييد الثورة.
بالنظر إلى تاريخها المهني الطويل، فإن تولي السفيرة آن باترسون للملف المصري الذي إستحدث خصيصاً في الخارجية الأمريكية في الأول من مارس 2011، يعد إشارة واضحة إلى أن القرار الأمريكي بالتعامل مع الثورة كان قراراً إسترتيجياً إما لإجهاضها أو على أقل تقدير إختطافها
يتلخص تاريخ السفيرة باترسون في مهامها السابقة بالبلدان التي عملت بها بإفتعال أزمات داخلية، و دعم و إصطناع نخب سياسية، و إستقطاب نخب إعلامية، و إسكات الأصوات المعارضة للسياسة الأمريكية و إقصائها، و التوسع في عمليات إغتيال الرموز و النخب، و التوسع في التعاقدات الأمنية و إضفاء حصانة على المتعاقدين الأمنيين، و غيرها من أعمال إنتهاك سيادة الدول المضيفة. و في جلسة تأكيد تعيينها سفيرة في مصر أمام الكونجرس الأمريكي إعترفت باترسون بتمويلها لعدد من المنظمات و المجموعات المصرية بعد الثورة مما أثار حفيظة المصريين و أدى إلى فتح تحقيق رسمي في هذه الإنتهاكات. أما عند تقديم أوراق إعتمادها كسفيرة في مصر في أوائل صيف 2011 فقد كان المطلب الرئيسي للسفيرة باترسون من رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو عدم نشر نتائج التحقيقات و إغلاق ملف التحقيقات في التمويل دون كشفها للرأي العام.
أيضاَ مما يؤكد القرار الأمريكي الإستراتيجي بمعاداة الثورة المصرية و الحرص على إفشال مشروعها الوطني هو إنتدابها لمبعوثها السابق إلى كل من أفغانستان و العراق ويليام تايلور في منصب مستحدث آخر كمبعوث الإدارة الأمريكية لثورات الربيع العربي. و بالنظر إلى تاريخ تايلور هذا لوجدناه أولاً يرتبط بعدد من المنظمات الأمريكية الممولة للنخب المصطنعة، و لرأينا الدور الرئيسي الذي قام به لتدمير البنى السياسية و الإجتماعية و تقويض مؤسسات الحكم في كل من أفغانستان و العراق و إحداث الخلل السياسي و فراغ السلطة في كلا البلدين و الزج بهما في أتون الصراعات الداخلية، و هو ما يثير المخاوف من المزيد من الأزمات المفتعلة في مصر.
في إستعراض الأحداث على الساحة المصرية منذ الثورة خير شاهد على الدور الأمريكي و إرتباط أمريكا بمجمل الأحداث على الساحة المصرية سواء من خلال علاقاتها و محاولات تأثيرها على المجلس العسكري الحاكم، أو إستخدام و توظيف النخب المصطنعة، أو حتى التورط ميدانياً في إفتعال و تصعيد الأزمات في مصر بشكل شهري.
أما عن التورط الأمريكي ضد الثورة المصرية و إفتعال الأزمات فهو ما يمكن ملاحظته بدءاً من دهس السيارة الدبلوماسية الأمريكية للمتظاهرين في شارع القصر العيني في جمعة الغضب، مروراً بالتقارير التي تشير إلى تورط المبعوث الأمريكي أثناء الثورة فرانك وايزنر بالحصول على توكيلات لإخفاء أصول و أرصدة الرئيس المخلوع و أسرته، و تورط عناصر من المتعاقدين الأمنيين في قنص الثوار في موقعة الجمل و غيرها من أحداث الثورة بإستخدام أسلحة غير متوفرة للجهات الأمنية المصرية، مروراً بمؤتمر جراند حياة لتشكيل تحالف رفض التعديلات الدستورية في الأسبوع الأول من مارس و الذي تم بتمويل مشترك من غرفة التجارة الأمريكية و الملياردير “المصطنع” نجيب ساويرس و صحيفته “المصري اليوم”، ثم أحداث كنيسة صول إطفيح، ثم إعتصام 8 إبريل، فأحداث كنيسة إمبابة، تلتها أحداث مسرح البالون، فإعتصام 8 يولية، فأحداث 9/9، مروراً بأزمة ماسبيرو، و أخيراً و ليس آخراً أزمة التحرير المفتعلة و أحداث شارع محمد محمود.
القاسم المشترك في جميع هذه الأحداث أنها جميعاً ازمات مفتعلة تورطت فيها أطراف مصرية و أجنبية، و إستدرجت فيها قوى سياسية وطنية و ثورية أو فئات من الشعب المصري أو قوات من الجيش و الداخلية لإحداث صراع داخلي و وقيعة بين الشعب و طوائفه أو تياراته السياسية أو الجيش و غيره.
أما عن الموقف السياسي الأمريكي فيمكن إستقراؤه من خلال الضغوط الدائمة و محاولات التأثير على المجلس العسكري الحاكم، و السعار الواضح في إضفاء شرعية على “النخب المصطنعة” من خلال منح الجوائز و “التلميع الإعلامي” و ضخ مبالغ طائلة على برامج و منظمات ليس لها وجود حقيقي على أرض الواقع، و إطلاق تصريحات وهمية عن حوارات إما غير موجودة أو غير مجدية مع قوى وطنية للتشكيك في مصداقيتها، و إستغلال الأزمات الطائفية المفتعلة للتهديد بتدخل أجنبي تارة و بتقسيم مصر تارة أخرى، و أخيراً المطالبة بتسليم السلطة إلى “نخب مصطنعة” عقب مسرحية ظهر فيها أحد هذه النخب في الميدان لدقائق قبل أن ترفضه جماهير الميدان. و يظهر التورط الأمريكي في إفتعال الأزمات و محاولات توظيفها بوضوح في التصريحات الأمريكية من جهات متعددة في أقل من 24 ساعة بالمطالبة بتسليم السلطة إلى البرادعي المرفوض شعبياً عقب أزمة الأحداث في شارع محمد محمود.
و إذا نظرنا إلى تعثر أداء مختلف الأطراف و القوى الوطنية و عدم جاهزيتها لإلتباسات المرحلة الراهنة من فراغ السلطة و القيادة لأدركنا مدى خطورة هذا المخطط على أمن الوطن و مستقبله و وحدة أراضيه.
المخرج من الأزمة:
على مدى الأشهر الماضية منذ تنحي الرئيس المخلوع و من خلال تفاعلاتي مع مختلف القوى في الساحة، أرى أن الخطر الأكبر الذي يهدد المشروع الوطني و يجعله عرضة لتلاعب مختلف الأطراف داخلياً و خارجياً هو عدم وضوح الرؤيا و قلة الوعي السياسي، الذي هو نتيجة طبيعية للتجريف الثقافي و التصحر السياسي الذي إقترفه النظام المخلوع على مدى العقود الأخيرة. كما أن الدور الذي تقترفه “النخب المصطنعة” من تجهيل و وقيعة بقصد و عن غير قصد كلها من العوامل التي تسهم في تفاقم التخبط الراهن في الساحة.
الحل للأزمة المصرية يكمن في أمرين:
إستعادة الوحدة الوطنية بين مختلف تيارات الشعب و طوائفه و قياداته و حكومته و قواه الوطنية و السياسية و الثورية.
و ترشيد مشروع الثورة بإعادة التعرف على المشروع الوطني و السياسي للدولة المنشودة و التوحد خلفه.
و إلى المشككين في النوايا و الدوافع و المخططات أقول أن القوة الوحيدة الفاعلة في مصر الآن القادرة على الحسم هي الشعب بشرط توحده. و حيث أنني لست بصدد الدفاع عن وطنية الأطراف غير الشعبية كالمجلس العسكري أو الحكومة أو المخلصين من قيادات الداخلية، فإنني أؤكد أن العامل الحاسم لإنجاح المشروع الوطني و السياسي للثورة هو توحد الإرادة الشعبية و ليس مدى إخلاص نوايا أجهزة الحكم.
قدمت مصر سواء في الإستفتاء أو في الإنتخابات الأخيرة دليلاً للعالم أجمع على رقي التقاليد الديموقراطية و تجذر الهوية الحضارية للشعب المصري. هذه التجربة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الميزة النسبية لهذا الشعب و مكمن قوته تكمن في حضاريته و سلوكه الحضاري. من هنا فإن الإنشغال عن التحول الديموقراطي، مهما كانت الذرائع و فداحة الأحداث و الأزمات، هو في حقيقة الأمر إستسلام لمخطط إستراتيجي لإفشال التحول الحضاري في مصر يلتقي عليه أعداء هذا المشروع سواء في الشرق أو الغرب.
نحن اليوم في أمس الحاجة لإعادة تنظيم الصف الوطني، و التوحد حول مشروع الثورة بإستكمال إسقاط ما بقي من النظام، و بناء مصر الحرة التعددية الحديثة بنفس الأسلوب الحضاري الذي إنتهجته “ثورتنا”. كما أننا بحاجة للتوحد لإخماد الأصوات التي تجد في أعداء الوطن راعياً شرعياً و وحيداً.
و أنا اليوم كلي ثقة بأن أول أولويات ما يفرزه الشعب اليوم من قيادات هو التواصل مع الأخ و الشقيق من أبناء الوطن مهما إختلف التوجه و الطائفة و الديانة، فوحدة هذا الشعب هو السر الدفين الذي تتوه فيه المؤامرات، و هو حائط الصد الذي يتحطم عليه كل ما يدبر للبلد و أهله من فتن و صراعات و تناحرات.
أقول لشعب مصر إن أمامكم قروناً لتعوضوها من تراجع الدور الريادي الحضاري لمصر. و إن إستعادة الريادة الحضارية هي مسؤولية كل مصري في المعتقد قبل السلوك، و تتطلب بالضرورة مراجعة المواقف و الأفعال حتى نستعيد جميعاً زمام المبادرة الحضارية و ننجو من مستنقع ردود الأفعال.
رسالة أخيرة إلى الشعب من قوى وطنية و شباب ثوري أكرر فيها مقولة لا تفارقني:
“كلما إطلعت على حال مصر و أهلها إزددت يقيناً أن الثورة المصرية صنعها الله و لم يصنعها بشر”. إن ثورة صنعها الله وحده، كما أعلن مصري مسيحي لحظة تنحي الرئيس المخلوع، لا و لن يكون مصيرها سوى النصر و التمكين شاء من شاء و أبى من أبى. كل ما في الأمر أن نكون جميعاً من اسباب هذا النصر لا عثرة في طريقه.