مصر الديموقراطية و أولويات بناء الدولة

June 25, 2012 by
Filed under: Articles, مقـــالات عربيـــة 

بقلم

د. نضــال صــقر

أعلنت اللجنة العليا لإنتخابات الرئاسة بمصر فوز المرشح الذي ينتمي لفصيل رئيس في الثورة المصرية.  د. مرسي هو أول رئيس منتخب لمصر بعد ثورة الخامس و العشرين من يناير، و يؤذن إنتخابه ببداية تاريخ جديد للدولة المصرية و المنطقة العربية و الإفريقية و العالم أجمع.  يواجه الرئيس مرسي تحديات على مختلف المستويات، كما إعترض طريقه نحو الرئاسة العديد من التحديات تذكرنا جميعاً بالثورة المصرية نفسها و التي لا نكاد بعد عام و نصف نصدق تحققها، و أننا أسقطنا بالثورة نظاماً من أكثر النظم فساداً و إستبدادأ و وحشية.  إلا أن ما يطمئننا جميعاً أن وصول مرسي إلى كرسي الرئاسة هو بحد ذاته معجزة إلهية، و خصوصاً لو نظرنا لمدى التخبط و الإرتجالية و العشوائية التي وقعت فيها حملته و الجماعة و الحزب الداعمين له في لحظات قاتلة من سير العملية الإنتخابية.

التحدي و أنواعه:
إن من أخطر ما تعانيه مصر اليوم و يعترض طريق نجاح مشروعها كدولة و ثورة هو غياب ثقافة الإستراتيجية في التفكير و التخطيط، و غياب ثقافة الإحترافية و الإتقان في العمل.  و ينعكس خطورة غياب هذه الثقافة على مستويين رئيسيين: المجتمع و الدولة.

إعادة بناء المجتمع:

من الصعب تخيل إنسلاخ الرئيس مرسي عن خلفيته التربوية و أصوله الفكرية الإخوانية.  و لربما تعد هذه المرجعية التي يتمتع بها الدكتور مرسي أهم المقومات التي تحتاجها مصر في إعادة بناء المجتمع المصري الحديث.  تحتاج مصر اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة صياغة الهوية المجتمعية و الجمعية.  الهوية المصرية التي ننشد هي ذات الهوية المصرية الحضارية العريقة التي عشناها جميعاً أيام إعتصامنا في الميدان إبان إنطلاق ثورتنا المجيدة.  هوية من أهم مقوماتها التسامح و الحب و الإنتماء و التسارع نحو خدمة الهدف العام و نكران الذات و التحلي بالصبر و الأمل،  و قبل كل ذلك و بعده اليقين بنصر الله.  ما تحتاجه مصر اليوم هو خطاب عام إعلامي و سياسي و شعبي يعظم الفضيلة و الإنتماء و حب مصر  و وحدة المصريين.  أنا لا أتحدث عن إجتماعات التوافق الوطني في صالات فنادق الدرجة الأولى، بل أتحدث عن تعزيز روح الإنتماء لدى الفرد المصري، تماماً كما شهدنا عقب التنحي من قيام المصريين بطباعة نشرات و دعوات للسلوك الحضاري و الإقلاع عن التدخين و النظافة العامة و الوحدة الوطنية و التفاني في حب مصر.

ما نحتاجه اليوم هو إستغلال هذه الفرصة التي لن تتكرر بتحفيز الكوامن الحضارية في الشخصية المصرية حتى يصبح كل فرد مصري فاعلاً مملوءاً بالأمل و الإنتماء يعول عليه في إعادة بناء الحضارة.  يقع على الجماعات المجتمعية و الدينية مسؤولية كبرى في إعادة صياغة الهوية المجتمعية و الجمعية لتخرج عن ثقافة التنظيم الضيق المغلق إلى رحابة مصر حضارة و شعباً و تاريخاً و مستقبلاً.

قامت جماعة الإخوان المسلمين على إعادة بناء المجتمع و تأهيله حضارياً على اساس منظومة راسخة من القيم و الإنتماء، فلتعد جماعة الإخوان المسلمين مشروع أمة كما أنشأها مؤسسها و أرسى دعائمها رجالها و مرشديها و أخص بالذكر مرشدها الثاني المستشار حسن الهضيبي كما علمنا في رائعته “دعاة لا قضاة” و كما أرخ لنا مرشدها الثالث الفذ عمر التلمساني في رائعته “ذكريات لا مذكرات”.  كفى الإخوان سياسة أن وصل إثنين من أطهر و أخلص و أنقى رجالها و أكثرهم تواضعاً و أحصفهم سياسة محمد مرسي على رأس السلطة التنفيذية، و سعد الكتاتني على رأس التشريعية، بالإضافة إلى ثلة من خيرة النواب و المشرعين.  و لتضطلع جماعة الإخوان بمسؤوليتها الرئيسية و الوحيدة في إعادة صياغة مجتمع حضاري قائم على الأخلاق و الفضيلة و الإنتماء و حب الوطن و الوحدة الوطنية و نظافة اليد و العيش وفق نماذج بناء الحضارة رواد التاريخ، وهي مسؤولية الإخوان لها أهل فهي إختصاصهم و معنى وجودهم. لتترك الجماعة للحزب أن يتمرس في السياسة و يبدع في فنونها و يتعلم مهارات العمل السياسي المفتوح بعيداً عن عقلية و عقيدة التنظيم السلطوي المغلق الجامد.  ليكن العمل السياسي لحزب الجماعة باباً من أبواب العمل الدعوي الذي يأسر القلوب بالنموذج القدوة في الوطنية و السلوك و الإنتماء .

إلى الأحبة ممن إختلف مع الإخوان أقول على الرغم من مغالاتكم أحياناً في التحامل على الإخوان، يبقى الإخوان جزء من نسيج المجتمع يصيبه ما يصيب المجتمع.  و على الرغم من أي قصور في أدائها أثبتت جماعة الإخوان أنها صمام أمان المجتمع الحارس لآمال و تطلعات و مصالح الوطن.  و أقول إن تطوير أداء الجماعة و عودتها إلى خطها الدعوي الأصيل هو مصلحة للأمة جمعاء، و إني كلي ثقة بأن عودة الجماعة إلى منهجها الدعوي الوطني المنتمي المتواضع سيمثل القاطرة الحضارية للمجتمع المصري أياً كان الإنتماء السياسي و الديني و المذهبي.

إن إعادة تأهيل المجتمع هو مسؤولية جمعية يحملها كل واحد منا من موقعه.  المصريون أهل إبداع و إبتكار، و أعول كل التعويل على المجموعات الأهلية و المنظمات و التجمعات لتطوير البرامج المجتمعية في كل حارة و شارع في أنحاء الوطن الحبيب، لتعود مصر نبراساً للحضارة.  الحضارات تقوم على السلوك الحضاري في التوجيه و الإرشاد و النصح و التقويم و الحكمة و اللين، و قبل كل ذلك التجرد و التواضع و الإخلاص لله و الدين و الوطن.  لن ينجح محمد مرسي و لن تنجح مصر إلا بقدر نجاح المصريين جميعهم في بعث روح الحضارة و الإنتماء من جديد.  فمصر اليوم هي مصر الحرية و الإرادة و الكرامة، لا مصر الشمولية و القهر و الإستبداد.

على الإعلام مسؤولية كبرى، و لا أجد أي غضاضة في الفترة الراهنة من وضع معايير إحترافية للإعلام الحضاري البناء و الهادف، على أن يشارك في صياغة ميثاقه جموع الإعلاميين في الوسائل المختلفة، و يقوم الإعلاميون أنفسهم بالرقابة الذاتية على أنفسهم و نصح بعضهم بالإلتزام بهذا الميثاق.  كفانا ما أفسد النظام البائد و إعلامه من عقول المصريين، و كفى المصريون ثقافة اليأس و العجز و الفشل و النكران للوطن التي رسخها الإعلام الرسمي منه و الخاص على مدى عقود.

بناء الدولة:

إن من أخطر ما يتهدد بناء الدولة الحديثة و مؤسساتها ما يذاع عن مواءمات للتوافق الوطني يتم بموجبها إسترضاء هذا أو ذاك.  مصر مليئة بأصحاب الخبرات و الكفاءات من خارج الإستقطاب السياسي.  و من إنتخب مرسي سعياً وراء منصب أو حظوة أو نفوذ فلا حاجة لا لمرسي و لا لمصر به.  نعم أخفق الإخوان في وقوعهم طرفاً في الإستقطاب و تعطيلهم التوافق الوطني و إنفرادهم ببعض الملفات بعد تنحي المخلوع، لكن كل هذا لا يبرر “التوافق العقابي” و الوصاية على رئيس إنتخبه جموع المصريين و شاركت كل هذه القوى في دعمه و الحشد له.  حملة د. مرسي، في تقديري، و قعت في أخطاء كارثية في إدارة الحملة دفعنا جميعاً ثمنها في الفارق الضئيل بين مرشح يمثل الثورة و الحرية و المستقبل و مرشح العودة إلى الوراء.  هذه النسبة التي لا تكاد تذكر تضعنا جميعاً أمام درس لا يمكننا تناسيه في غمرة الإحتفال بفوز مرشح الشعب و الثورة.

مصر بحاجة إلى رئيس حكومة عالم بخبايا المجتمع المصري من نجوعه و كفاره و أطرافه و عشوائياته و معاناة فقرائه.  حكومة مرسي هي حكومة عدالة إجتماعية بالمقام الأول لإعادة بناء مصر حضارية حديثة و ليس مصر طبقية فرعونية.  رئيس الحكومة هذا يشترط له أولاً الوطنية و الإنتماء و الكفاءة على حد سواء.  عالم بالإقتصاد و الإدارة و المجتمع، ممارس للسياسة عارف بعمومياتها، و قبل كل ذلك و بعده إستراتيجي الفكر منظم التفكير واضح الرؤيا منهجي العمل يتمتع بثقافة الإبداع و الإبتكار و إستنباط الحلول.

رئيس وزرائنا هذا ليس من أصحاب الجماهيرية و العلاقات الدولية كما يروج البعض، فالمؤسسية تقتضي أن يكون رئيس وزرائنا كادح عامل على الأرض لا يهدأ له بال حتى يتصدى لهم المواطن، تكون أولويته القصوى تطوير الجهاز الإداري المترهل و الضارب الفشل و الفساد في أركانه و مستوياته.

رئيس الوزراء هذا بحاجة إلى جهازين رئيسيين إثنين يبدأ بهما:

جهاز التطوير الإداري:
و هو جهاز من الخبراء و المختصين في قطاعات و وزارات و أجهزة الدولة من الخبراء و الفنيين، يقومون بمسح مقطعي لكل أجهزة الدولة و وزاراتها بدءاً من الوزارات و الدوائر الحكومية التي:

1. تتعامل مع القدر الأكبر من مصالح المواطنين، و يحضرني هنا وزراة الزراعة و المالية و التعليم و الداخلية و الإدارة المحلية و الأشغال و التضامن الإجتماعي و الإقتصاد من إستثمار و صناعة و تجارة و غيرها.

2. تدر على الدولة أكبر الإيرادات و المدخولات و أهمها وزاة الزراعة و المالية و البترول و الإستثمار  و هيئة قناة السويس و غيرها.

 يقوم جهاز التطوير الإداري بمراجعة أعمال الجهاز السابق المسمى وزارة التنمية الإدارية لتقدير مدى الإفادة من التجارب السابقة، و يقوم بوضع معايير للأداء الإداري التي تضمن أولاً إرساء أسس الشفافية و المحاسبية المعيارية، و الإحترافية و الكفاءة في الأداء و زيادة إنتاجية الموظف و القضاء على ظاهرة التكدس “غير المنتج” في الوظائف الحكومية.  من خلال المراجعات الميدانية لجهاز التطوير الإداري يمكن التعرف و بدقة على منظومة الفساد و اسبابها و أطرافها، لوضع حلول جذرية عملية للقضاء على ممارسات الفساد كخطوة أولى في طريق إستئصال ثقافة الفساد و التي هي شرط اساس لبناء نهضة حديثة.  على مدى العام و النصف الماضيين و من خلال حوالي 13 مقالاً و بحثاً كنت فصلت بعض جوانب ظاهرة الفساد و ممارساته، و ضرورة التمييز بين الفاسد المفسد و الفاسد المقلد، و ما يرتبط بظاهرة الفساد من تشويهات في هيكلية الأجور و المرتبات، و كيفية القضاء عليها دونما إرباك لعمل مؤسسات الدولة و دونما تحميل من تورط في ممارسات الفساد ذنب نظام جعل من الفساد نظام حياة للكبير و الصغير.  خلال العام و النصف الماضيين كنت إصطحبت عدداً من القياديين في بعض الجماعات إلى عدد من الدوائر الحكومية للتعرف عن قرب على عدد من المسؤولين و الموظفين لمعايشة تجربة الفساد الممنهج الذي تعمل فيه العديد من قطاعات الدولة.

الجهاز القومي للإحصاء:

تمثل المعلومة الإحصائية الأساس الإحترافي الأول لنهضة و تقدم أي دولة و مجتمع.  كباحث إقتصادي أعرف تماماً مدى خطورة غياب المعلومة الإحصائية أو عدم مصداقيتها.  كممارس للأعمال و السياسة أدرك حالة التوهان و العزوف و الإحباط التي تسببها غياب المعلومة الإحصائية.  و كباحث و ناشط في شؤون دول عدة منها الشأن الإسرائيلي و الأمريكي، على وجه الخصوص، أجزم بأن إحترافية و مصداقية الجهاز القومي للإحصاء في كلا البلدين هو عامل رئيس في تفوق كلا البلدين في مجالات عدة، و هو أمر تعاملت معه شخصياً على مدى أكثر من ثلاثين عام، تخللها رسالة علمية عن تحديات التنمية في دول منظمة المؤتمر الإسلامي.

في الوقت الذي إنهمك فيه الحزبيون و السياسيون في معارك إنتخابية و ما شابه شاركت في العديد من اللقاءات و الندوات و المؤتمرات، كما و إلتقيت و عدد من القيادات البرلمانية و حضرت إجتماعات بعض اللجان النوعية في مجلس الشعب، و إجتمعت و عدد من المجموعات الشبابية التي تشكلت بعد الثورة للإسهام في نهضة مصر.
قدمت في أحد الإجتماعات لرئيس لجنة الخطة و الموازنة في مجلس الشعب الشرعي المنتخب نموذجاً للدليل الإحصائي السنوي الذي لا مفر لمصر من إستنساخه و بنفس القدر من الإحترافية، إن لم يكن أكثر، في غضون ما لا يزيد عن ثلاثة سنوات.  كما و شرحت لرئيس اللجنة بشكل مقتضب كيف يمكن الإنتقال من الحالة غير الفاعلة للجهاز المركزي للتعبئة و الإحصاء الحالي إلى جهاز متطور يستطيع أن يوفر المعلومة الإحصائية الشاملة التي لا غنى عنها لصانع القرار و المستثمرو المخطط و السياسي و حتى رجل الأعمال، على حد سواء.

من معايشتي للتجربة المصرية أجزم بأن مصر تمتلك من السواعد و العقول و الكفاءات ما يؤهلها لإرساء نموذج حضاري متقدم ينتقل بها من مصاف الدول الفاشلة إلى صدارة الدول الرائدة وفق منهجية إستراتيجية عملية في غضون أعوام معدودة، و ليس عقدين كما أشار ما يسمى “مشروع النهضة” الذي شاركت في بعض إجتماعاته، و ما زلت أسجل تحفظاتي على الكثير الكثير من أطروحاته و تفاصيله من منظور إستراتيجي و عملي و علمي على حد سواء.

السياسة الخارجية:

ملف السياسة الخارجية هو من أخطر الملفات التي تواجه الرئيس مرسي في الفترة الراهنة على الإطلاق.  كما و أنه أكثر الملفات التي أسيء إدارتها و التعامل معها من جماعة الإخوان و بعض فريق حملة د. مرسي الإنتخابية.  كنت طرحت على قيادات جماعة الإخوان المسلمين الصيف الماضي ملف لإستراتيجية العلاقات الخارجية على مختلف مستوياتها، تبين من الخطاب الإعلامي و التطورات إجتزاء هذه الملف و التعامل معه بعشوائية و إرتجالية و “عنترية” أوصلتنا إلى نتائج كارثية في بعض الملفات البالغة الخطورة.

بإختصار شديد، تندرج العلاقات الخارجية ضمن منظومة و رؤيا إستراتيجية ترتبط بالمشروع الوطني فيما يتعلق بالمستقبل الداخلي و الإقليمي و الدولي لمصر.

في ظل الحضارية المتميزة للثورة المصرية و النجاح المبهر لما تم من تحول ديموقراطي حتى هذه اللحظة، و أعني هنا الأداء المتميز لمجلس الشعب المنتخب، و نجاح مصر في تقديم نموذج قيادي واعد يعيد أمجاد الحضارة على غرار الزاهد العابد إبن القرية المتواضع حافظ القرآن المتمثل بالدكتور مرسي، لا بد لمصر من إستعادة ريادة ركب الحضارة، و لا بد لمصر من أن تتصدر قيادة المشروع الحضاري الإنساني.  هذه المفاهيم التي شرحت في كتابات سابقة هي في طريقها الآن إلى الوعي الجمعي المصري و الثقافة المصرية العامة.  أذكر قبل حوالي عام كنت أتنقل بين القوى السياسية و الحركات الشبابية للترويج لمفهوم “المشروع الوطني” الذي لم يكن أحد يعرف معناه في ذلك الوقت، و كنت أضطر لشرحه و تعريفه بإسهاب.  الآن يتحدث الكثير من السياسيين عن المشروع الوطني كجزء من الخطاب العام، و إن كان أغلب من يتحدث عنه لا زال يحاول التعرف على ما يعنيه المصطلح.  عما قريب سيتحدث الفلاح المصري و سائق التوك التوك عن المشروع الحضاري الإنساني في سياق حديثه العام، و سيدرك كل من يتحدث عن هذا المصطلح و المفهوم ما يعنيه على مختلف المستويات، و سيظهر في مصرأنواع جديدة من السياحة كالسياحة الثورية و السياحة الحضارية يتعرف فيها الزائر على مصر الحضارة و الإنسان.  لا خيار لمصر و لا لشعب مصر بعد أن أوشك اليأس أن يتسلل إلى القلوب حتى عهد قريب، لا خيار لهم سوى العودة إلى تراثهم و مكنونهم الحضاري لتعويض قرون من تراجع مصر عن ريادتها الحضارية.  هذا هو بالتحديد التحدي و المسؤولية الأكبر لمرسي و كل مصري، ألا و هو إستعادة مصر لريادة المشروع الحضاري الإنساني.

يمكن تصنيف منظومة العلاقات الخارجية ضمن ملفات إستراتيجية لكل منها إعتباراتها و أهدافها، المرحلية منها و الإستراتيجية، و محدداتها و آلياتها.  أهم هذه الملفات هي: العلاقات العربية، العلاقات الإفريقية، العلاقات الإقليمية، العلاقات الدولية.  و تنقسم العلاقات الدولية إلى مجموعة من الملفات الإستراتيجية، و منها: ملف القوى الصاعدة ومنها الهند و البرازيل و تركيا، و منها ملف العلاقات و الموازنات الدولية، و أهمها العلاقات الصينية و الأوروبية و أخطرها على الإطلاق ملف العلاقات الأمريكية.

كما ذكرت، رفعت لقيادة الإخوان منذ عام توصيات بإستراتيجية للعلاقات الأمريكية، أسيء توظيفه، مؤداه أن العامل الأمريكي هو الأخطر على الإطلاق على نجاح المشروع الوطني المصري.  أمريكا ليست، لم تكن، و لن تكون على المدى القريب حليفاً حقيقياً لمصر و ثورتها، و ستناطح أمريكا حتى الرمق الأخير للإحتفاظ بهيمنتها على القرار المصري و إبقاء مصر ضمن منظومة الهيمنة الأمريكية.  و ستستخدم في ذلك كل ما هو متاح لها من نفوذ إقليمي، و حتى علاقات مع الداخل المصري سواء مع القطاع العسكري أو الأعمال أوالإستخباراتي أو الأمني و فلول و بقايا منظومة الفساد.  ستستمر أمريكا في إستغلال نقاط الضعف و عدم الخبرة و “السذاجة السياسية” لدى بعض الرموز و الأطراف، و ستتواصل إجتماعات السفيرة الأمريكية لإثارة المزيد من الإرتباك و الإضطراب و الأزمات.  منذ اليوم الأول، كنت و من خلال بعض المجموعات الثورية حذرت من دور السفيرة باترسون التي بدأت تعبث في الشأن المصري منذ توليها ملف أنشئ خصيصاً في الخارجية الأمريكية بعنوان “الملف المصري” منذ الأول من مارس 2011، و كان لها دور رئيسي في حالة الإستقطاب و عدم الإستقرار التي عانت و ما زالت تعاني منه البلاد.

كناشط أمريكي إحتل مواقع خطيرة في منظمات مدنية و جهات رسمية أمريكية، على حد سواء، حذرت و ما زلت أحذر من خطورة العامل الأمريكي و وجوب التعامل معه بمنتهى الإستراتيجية و الإحترافية.

المطلوب في الملف الأمريكي هو إعتماد إستراتيجية علاقات و حوار تقوم على إعادة تعريف المصالح المشتركة و محددات العلاقات بين البلدين على أساس من الندية و الإحترام المتبادل للسيادة و إستقلال القرار، يتم بموجبه إعادة تعريف المفهوم الإستراتيجي للمصالح الأمريكية بشكل عام، و في مصر و المنطقة على وجه الخصوص.  كما أشرت في لقاءات سابقة مع العديد من المسؤولين الأمريكيين و نشرت في هذا المجال، لا بد لأمريكا من إعادة تعريفها للمصلحة الأمريكية من منظور مصالح الشعوب و ليس الأنظمة.  دعم الديكتاتورية سيظل نقطة سوداء في التاريخ الأمريكي لا بد من إستئصالها من الوعي و الثقافة و الممارسة السياسية الأمريكية.  و أمام مصر اليوم فرصة سانحة لإعادة تأهيل الهوية السياسية و الوعي السياسي الأمريكي، و هو ما يتوجب علينا أيضاً كناشطين أمريكيين القيام به كمسألة حياة أو موت تهدد الهوية و الوجود الأمريكي بحد ذاته.  إستراتيجية إدارة العلاقات المصرية الأمريكية يجب أن تنصب على إحداث التغير في النظرة و العقلية الأمريكية، بإستخدام أدوات عديدة متاحة للدبلوماسية المصرية، بحيث تصل العلاقات المصرية الأمريكية إلى مرحلة النضوج خلال عامين على الأكثر.  من الطريف أن نفس هذا الطرح هو ما أصررت عليه في أحد لقاءاتي قبل الثورة مع الرئيس الحالي للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب المنتخب، و اليوم لا أجد مفراً من الدعوة إلى التفكير فيه بمنتهى الجدية و الإلتزام.

العلاقة الإستراتيجة المصرية الأمريكية:

 يتحقق النضوج في العلاقة المصرية الأمريكية عندما تنجح الإدارة الإستراتيجية للعلاقات المصرية الأمريكية في الوصول إلى شراكة إستراتيجية تعيد فيها أمريكا صياغة تعريف مفهوم العلاقة بحيث تؤمن أمريكا أن تحقق المصلحة المصرية و فق الرؤيا المصرية الإستراتيجية هو السبيل الوحيد لتحقق المصلحة الأمريكية.  عصر التبعية المصرية لأمريكا أضر بأمريكا و مصالحها تمامأ كما أضر بمصر و شعبها.  أمام أمريكا طريق طويل لإكتساب المصداقية لدى الشارع المصري و العربي، و على أمريكا الكثير الكثير لتكفر فيه عن دعمها للإستبداد و عن سفك الدم العربي و المسلم.  و أعتقد جازماً أن علاقة أمريكية محترمة مع مصر الثورة و الحرية و الكرامة هي أول الطريق نحو تصحيح المسار التاريخي و تطهير الهوية و الوعي الأمريكي مما علق به من عنصرية و دموية و وحشية و إستبداد، لم يسلم منها حتى الشارع الأمريكي نفسه.

ختاماً، هنيئاً لمصر الرئيس الإنسان، لا يحضرني مما قاله إلا نموذج نعمل جميعاً على إعادة إحيائه بعدما عانت الإنسانية قروناً من فقدانه: “أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم”.

Comments

Comments are closed.