مصر بين العبث السياسي و بناء الدولة
بقلم نضال صقر
تمر مصر الآن بمرحلة بالغة الخطورة من تاريخها، كما و تمر ثورة الأحرار بمصر بمرحلة هي الأخطر حتى الآن منذ إندلاع الثورة في الخامس و العشرين من يناير.
يجيب هذا المقال على تساؤلات عدة يطرحها الشارع المصري، و أهمها:
1. ماهية الحراك السياسي الحالي و سباق الترشيحات.
2. الموقف من التعديلات الدستورية، و التصويت عليها.
3. من ننتخب رئيساً.
4. الموقف من أي إنتخابات قادمة.
5. ماذا نفعل الآن.
بداية لا بد لنا جميعاً من إعادة التعرف على مصر من جديد لنعرف كيف نتعامل مع مصر ما بعد الثورة. مصر أولاً هي الأم و الكيان الحاضن لأبنائها و لمحيطها و هي مركز للحضارة و التاريخ ثم هي مولد إنبعاث الحضارة و تجديد الحضارة على مر التاريخ. بالطبع أنا لا أتحدث هنا عن حضارة للمصريين و التجديد للمصريين فقط، فمصر بطبيعة الحال و حقيقة التاريخ أم للمصريين و غير المصريين. هذه الحقيقة من الأهمية بمكان إذ تعني أن المسؤولية الوطنية لكل مصري تتجاوز مسؤؤولية بناء الوطن بمراحل إلى مسؤولية بناء الحضارة، و إن من لا يعي هذه المسؤولية لا يعرف في الحقيقة قيمة مصر و لا تاريخ مصر. إنهيار الواقع المصري الذي كان سبباً في الثورة يعود بدرجة كبيرة إلى تقزيم الدور المصري و الإنتقاص من قيمة مصر من قبل منظومة كانت ترى في مصر مطية لتحقيق مصالح ذاتية ليس فقط على حساب المصريين، بل لا أبالغ إذا قلت على حساب الإنسان في كل مكان.
هذا الوعي بالقيمة الحضارية لمصر و بالمسؤولية الحضارية لكل مصري هو شرط أساسي لتشكيل الوعي السياسي لدى كل منا حتى نسمو جميعاً فوق الواقع الصعب الذي نواجهه و حتى تتضح لدينا جميعاً الرؤيا بعظم المسؤولية الملقاة على عاتق كل واحد منا، فنجدد العهد و الإلتزام تجاه وطن أعطانا كثيراً و حرم منا و حرمنا منه طويلاً، و نتحمل نحن جميعاً على عاتقنا مسؤولية تعويض هذا الحرمان و الظلم. مصر بالمفهوم الذي أشرت هي بطبيعة الحال فوق أي شخص أو جماعة أو حزب أو تنظيم أو طائفة أو فئة من الفئات، فهي الحاضنة لكل ذلك و لن تكون مصر ما بعد الثورة محل وصاية و لا ملكاً مستباحاً لأحد.
أما الثورة فهي عملية تحول جذري في المجتمع في كل المجالات و القيم و المفاهيم. عملية التحول هذه لها بداية تكون عادة نتيجة تراكمات معينة، و لكن ليس من السهل القول بأن لها نهاية. التحول المجتمعي يأخذ شكل مجموعة من التفاعلات مع واقع سابق و تطورات و متغيرات تستدعي في كثير من الأحيان مراجعات و إعادة تقييم و تعديل خطط و إعادة النظر في أفكار و تصورات.
و إذ حرم المجتمع المصري من أي فرصة للإنخراط في هذه التفاعلية فهذا حال كثير من الشعوب، مع الفارق الكبير بأن مصر ليست كغيرها من الشعوب.
واقع ما بعد الثورة:
قامت الثورة لإسقاط النظام و هو عبارة عن منظومة حاكمة متغلغلة في مختلف أوجه الحياة سيطرت على الحياة المصرية لأكثر من ثلاثين سنة بل لربما قرابة الستين. إسقاط النظام بحد ذاته كما نرى ليست مسألة تتحقق في أيام و شهور، فالإسقاط الكامل لنظام سيطر بالكامل على الحياة و مناحيها لأجيال عدة من الممكن جداً أن يأخذ إستئصاله بالكامل أجيال عدة كذلك.
إلا أن ما يعنينا من إسقاط النظام بالمفهوم الثوري هو إزالة تلك المنظومة من النظام التي كانت تحول دون أو تعيق ممارسة الإنسان لحقوقه و التمتع بحريته و كرامته، بما في ذلك كافة الحقوق و الحريات المدنية و السياسية و غيرها.
مصر هي دولة ذات تاريخ طويل لم تكن كلها حكم رشيد، بل إن تاريخ مصر الحديث حافل بالحكم الديكتاتوري، و إن لم يكن بلغ من الفساد و الفشل ما بلغه في الثلاثين سنة الماضية. من هنا فإن العامل الأهم في التحول السياسي تجاه مناخ و نظام ديموقراطي هو إستئصال أي تهديد يؤدي إلى الديكتاتورية و الإنفراد بالحكم من جديد. كنا ما قبل الثورة نتندر على الوريث الموعود بعبارة “مصر كبيرة عليك”، و الآن و قد زالت غمامة العصابة الحاكمة تلك يجب أن نعترف بكل صدق و موضوعية أن “مصر كبيرة علينا كلنا”.
يدير البلاد الآن سلطة عسكرية حاكمة و هو وضع إستثنائي غير طبيعي و غير مرغوب فيه لا من قبل السلطة العسكرية الحاكمة و لا من قبل الشعب. و بالتالي فإن إعادة بناء الحياة السياسية و البدء و أكرر هنا كلمة البدء في التحول الديموقراطي و إستئناف الحكم المدني هو مسؤولية وطنية قصوى، و من يقول بغير ذلك من السياسيين فهو دون شك يسعى وراء رؤية شخصية و مصلحة شخصية على حساب الوطن، و بالتالي هو و النظام الذي أسقطته الثورة سواء بسواء.
أكرر هنا و إذ تأخذ الساحة السياسية بالإزدحام بالطامحين السياسيين الذين لم يجلسوا مع أبناء الوطن و لم ينزلوا الشوراع و الميادين بقدر ما جلسوا مع الغربان التي تحوم حول الوطن، أن الوطن و ثورته عصية على الإستهبال و الإختزال. الإستهبال السياسي هنا بمعنى إستغفال الشعب من خلال تضخيم السجل الشخصي بما ليس له علاقة بالتحديات التي يواجهها الوطن و إستغلال الجهل العام بالتاريخ الشخصي لتزوير هذا التاريخ.
لست هنا بصدد التجريح و الإنتقاص فالثورة هي في النهاية لنا جميعاً، و مصر حق لكل المصريين، أما السلطة و حمل أمانة أمة بأكملها في مرحلة من أصعب مراحل تاريخها فهذا شيء آخر. يخطئ من يظن أن الأمة المصرية هي أمة “فيسبوك” أو “تويتر” تماماً كخطأ من يظن أن ثورة مصر هي ثورة فيسبوك أو تويتر أو حتى “جوجل”. بل لقد كان للحكمة البالغة لحبيب العادلي و رئيسه العبقري بحجب الإنترنت و الفيسبوك و التويتر و حتى الرسائل الهاتفية الفضل الأكبر في إخراج الزخم الجماهيري الكاسح في جمعة الغضب و قبلها و بعدها، و الذي كان حاسماً في نجاح الثورة. لو إستعرضنا الثورة لوجدنا أن هذه الشبكات الإجتماعية أسهمت في الإعلان و أماكن التجمعات لليوم الأول، و إنتهى دورها بمجرد التجمع في نقاط التجمع. أما الزحف إلى ميدان التحرير و الإعتصام في الميدان و تنظيمه و هو الحدث الأهم في حسم مشروع الثورة بأكمله فلا علاقة له البتة بالإنترنت و سنينه. و بالطبع لا علاقة له على الإطلاق بمرشحي الإنترنت و سنينه.
الأمر الآخر الذي يعنينا في خضم زحمة المرشحين أن هناك قاعدة عامة معروفة بأن الطامع في السلطة ليس أهلاً لها. و يأخذ الطمع في السلطة أشكال عدة منها الإعلان بعدم الترشح في حال ترشح الحاكم المرفوض من قبل الشعب، أما بعد أن أسقط الشعب الحاكم المغضوب عليه “فتعالوا إنتخبوني”، أو “أنا لن أترشح إلا إذا أصر الشعب على ترشيحي” في الوقت الذي يقود فيه مجموعات لترشيحه على الإنترنت ثم يعلن ترشيحه، و يبقى السؤال من أعطى الحق بإختزال شعب مصر في شعب إنترنت، علماً بأن شعب الإنترنت هذا و شعب “غير الإنترنت” لم يقل كلمته حتى هذه اللحظة.
الأخطر في الأمر أن بعض المرشحين الذين كانوا قد أتوا إلى الساحة و بدؤا بالتنسيق مع القوى السياسية الأخرى و التفاهم على أرضية مشتركة. هؤلاء المرشحين لم يكلفوا أنفسهم عناء النزول إلى الشارع و التفاعل معه إلا من خلال صلوات جمع تلفزيونية محدودة. أما في الوقت الذي كانت جموع المصريين تسحق بآلة البطش في شوارع مصر و تفترش أرض التحرير و تلتحف سماءها كان مرشحنا إياه منهمك في لقاءات مع السفيرة الأمريكية و المبعوثين الغربيين للتناقش في مستقبل البلد و دونما تفويض.
من الواضح بأن مرشحي الفضائيات و الإنترنت ليسوا على صلة كبيرة في الشارع و أن معلوماتهم عن الشارع و توجهاته مستقاة من أي مصادر غير الشارع نفسه، و إلا كيف نفسر خروج مرشح على الفضائيات يعلن رضاه بأن يكون الأب الروحي للثورة و الثورة لا تعرف عنه شيئاً بل و كانت هتفت ضده في التحرير إبان الثورة. و حتى الحلول التي يرددها مرشحون الآن من قبيل ضرورة تشكيل مجلس رئاسي و غيره كانت طالبت بها الثورة في ميدان التحرير منذ الأسبوع الأول للثورة و لم يستجب لها هؤلاء المرشحون لإنشغالهم بمحاولة إقناع السفيرة الأمريكية و المبعوثين الغربيين بأهليتهم لشغل الفراغ السياسي. و قد كانت حجة هؤلاء المرشحين لعدم التجاوب مع المبادرات المطروحة في الميدان آنذاك هو ضرورة إنتظار نجاح الثورة، مع العلم بأن السقوط الفعلي للنظام و الفراغ السياسي كان قد تحقق فعلاً منذ الأسبوع الأول للثورة، و مع العلم بجاهزية أطراف معنية بما فيها القوات المسلحة نفسها و أطراف دولية للقبول بمشروع سياسي بديل لنظام مبارك يحظى بقبول شعبي و قادر على تحقيق الإستقرار، منذ الأسبوع الأول للثورة و نهاية يناير الماضي على وجه التحديد.
كما و يبقى السؤال بخصوص ما جرى وراء الأبواب المغلقة في الخامس من فبراير عام 2003، بخصوص أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق و خروج المرشح الذي كان يرأس وقتها إحدى الوكالات الدولية و فريقه ليحذر من أن تعاون الحكومة العراقية مع فرق التفتيش غير كاف في الوقت الذي كان يبحث فيه الرئيس الأمريكي السابق و حليفه البريطاني عن ذريعة لترويج العدوان على العراق و تشكيل التحالف الدولي له، و هو ما إستخدم حين ذاك كذريعة لتسويق الحرب شعبياً، كما هو معلوم لكل من يعيش في الغرب. ناهيك عن إعترافات رئيس ذات الوكالة السابق و كبير مفتشيها أثناء رئاسة مرشحنا إياه بتقديم بيانات مضللة تحت ضغوط أمريكية لتبرير غزو العراق، و ذلك في إعترافاته المنشورة لاحقاً. تصاريح كهذه و اللغة التي المستخدمة فيها هي أمور معروفة في عالم السياسة حيث نصطلح عليها بالحديث من كلا جانبي الفم في وقت واحد، حيث يمكن تفسيرها بأنها تقدم الحجة المقنعة لفرضية و عكسها في ذات الوقت ـ فهم هذه اللغة السياسية “الإنجليزية” تحتاج لتمكن من اللغة الإنجليزية على المستوى الدارج في بلادها. كل ذلك بالطبع عدا عن المبرر السخيف لزيارة هذا المرشح لإسرائيل و الذرائع غير المقنعة للحصانة التي منحتها الوكالة لإسرائيل ضد التفتيش و المساءلة بشأن ملفها النووي، فيما إتضح وقتها كمبرر لفوزه برئاسة الوكالة لفترة أخرى. هذا الموضوع لم أكن لأتطرق له أصلاً لولا المغالطات الكبرى في إنكاره و التعتيم عليه و عدم معالجته بمسؤولية و مصداقية أمام الشارع المصري صاحب القرار.
مستقبل مصر ايها السادة “صنع في التحرير” و ليس في ردهات الفلل و الفنادق. و أنتهز هذه الفرصة لأناشد أحباءنا من شباب الإئتلافات الشبابية الداعمة للثورة بالتوقف عن هذا العبث و إضاعة الوقت في الإنهماك في الإجتماعات و اللقاءات مع الوفود الأجنبية الرسمية و غير الرسمية في فنادق مصر و القاهرة. نحن جميعاً أعلناها في التحرير “المتغطي بالأمريكان عريان”، و أنا من هنا أعلنها، و أنا نفسي جزء من المؤسسة الأمريكية، أن أمريكا نفسها اليوم عريانة لا تملك أن تستر عورتها، فنصيحتي للسياسيين و الشباب و غير السياسيين بأن لا ينصرفوا عن الشارع المصري الذي هو صاحب الشرعية الجديدة إلى وفود كل همها أن تصنع نخباً سياسية تتساوق مع مشاريعها و مفاهيمها الضيقة لمصالحها القومية.
الولايات المتحدة عظيمة في أمور إلا أنها قاصرة في السياسة و مفهوم السياسة، و أساليبها في السياسة الخارجية معروفة و متكررة، و منها السعي المحموم لإصطناع نخب سياسية تفتقر إلى رصيد شعبي حقيقي بغرض إفراز قيادات تعتمد على الولايات المتحدة في وصولها و بقائها في السلطة بما ينعكس على ولاء هذه القيادات و النخب المصطنعة، و بالتالي إعتماد هذه النخب و القيادات على النفوذ الأجنبي و خدمة المصالح الأجنبية للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة.
و إلى كل المرشحين و مؤيديهم من هنا و هناك، أذكركم جميعاً بان شباب الميدان و الثورة لم يقولوا قولتهم بعد بإنتظار ما يقدمه المرشحون من مشاريع سياسية تشتمل على تشخيص واقعي و دقيق للمشكلات و التحديات، و على و الحلول التي يطرحها المرشح لهذه المشكلات، بالإضافة إلى الكيفية و الآليات التي يقترحها المرشح لحل هذه المشكلات و إنجاح مشروعه السياسي في خدمة الشعب و الوطن. كما و أطمئن كل المرشحين بأن المشروع السياسي بحد ذاته كفيل بإنجاح هذا المرشح أو ذاك بغض النظر عن الخلفيات التي إستعرضتها للمرشحين، بشرط أن يلقى المشروع السياسي الذي يقدمه تأييد و قبول الشارع.
الموقف من التعديلات الدستورية:
من المعروف أن دستور ما قبل الثورة هو دستور مشوه و لا يستجيب لتطلعات الشعب المصري و خياراته. و من هنا فهناك إجماع على الحاجة إلى صياغة دستور جديد. و لكن صياغة دستور جديد تتطلب آلية شعبية لصياغة الدستور ثم الإستفتاء عليه و إقراره. كما إن الرفض الشعبي لدستور ما قبل الثورة يحتم التخلص من أهم بنوده المعيقة للحريات بما يتيح التقدم الديموقراطي تجاه تحقيق الإرادة الشعبية في صياغة دستور جديد.
من هنا فإن إدخال تعديلات دستورية مؤقتة تتيح الحريات السياسية اللازمة للترشح و الإنتخاب كان لا بد منه لإجراء اي إنتخابات. بالطبع هناك تحفظات مشروعة أهمها ما يتعلق بضرورة اللجوء إلى وسائل أكثر تفاعلية مع الشعب و إستطلاع رأيه في ماهية المواد و التعديلات التي يرى الشعب ضرورة إستحداثها قبل إجراء الإنتخابات، و هناك ايضاً التحفظات بخصوص المواد المطلوب تعديلها في الدستور لإنتخابات حرة و عادلة و نزيهة و بالذات ما يتعلق بشروط الترشح و الإنتخاب و الحريات السياسية في تشكيل الأحزاب و التجمعات. و ذلك بالإضافة إلى المطالبات بإلغاء الدستور الذي أسقطته الثورة و الإستعاضة عنه بإعلان دستوري ينظم الفترة الإنتقالية، و التي يوجد إجماع على عدم إطالتها.
و رغم كل ذلك يرى كثيرون أن مبدأ التعديلات الدستورية هو بحد ذاته حل عملي لمباشرة العملية السياسية التي تقود إلى صياغة دستور جديد يستجيب لتطلعات الشعب وفق آليات يرتضيها الشعب كذلك، بشرط إزالة التعديلات للقيود على الحياة السياسية، و هو ما يبدو الآن محل إجماع.
إن رفض مبدأ التعديلات الدستورية في ظل تعطيل تعليق الدستور يعني إما الإستمرار بالدستور دون تعديل و تهديد مشروع الثورة من أساسه، أو الإستمرار في حكم عرفي دون دستور أو حقوق دستورية و هذا يعني إما ديكتاتورية العسكر أو الركون إلى الفراغ الدستوري و الفوضى، و إما صياغة دستور في ظل غياب ترجمة للإرادة السياسية و خيارات الشعب و هذا إختطاف للثورة. من البديهي أن إعادة صياغة الدستور في الظروف الحالية و في غياب برلمان منتخب بالضرورة يعني إطالة الحكم العسكري و تعطيل الإنتقال إلى السلطة المدنية. فمن يصيغ الدستور الجديد؟ و إن كانت هيئة تأسيسية فمن يختارها؟ و إن كان الجواب أن يتم إختيار الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور بالإنتخاب فهذا هراء سياسي في وقت لا يعرف الشعب من ينتخب ممثلاُ برلمانياً أو حتى كرئيس عدا عن مجموعة من القضاة و الخبراء و القيادات المجتمعية التي لا نكاد نعرف شيئاً عن مؤهلاتها فيما يتعلق بمهمة صياغة الدستور.
من هنا فإن المصلحة الوطنية الآن تقتضي التفاعل مع هذه التعديلات الدستورية إما بالقبول أو الرفض و طلب التعديل و ليس مجرد الرفض بدافع تعطيل المشروع الوطني. أما عدم التصويت ففيه تنصل من المشروع الوطني برمته في ظل مناخ حرية التصويت الموجودة الآن.
و في تقديري إن التعديلات الدستورية المؤقتة كإجراء إنتقالي يسمح بإنتخاب السلطات المدنية يبقى الحل الأفضل للإنتقال إلى مرحلة جديدة تتيح صياغة دستور جديد في جو سياسي أكثر إنفتاحاً و من خلال آليات تفاعلية تسمح بصياغة دستور أكثر إستجابة لتطلعات المصريين، و إن كان مدى هذه التعديلات يبقى محل نقاش و إنتقادات كثيرة، و مع مراعاة قابلية الدستور الجديد للتطوير بعد صياغته.
من هنا فإنه يتعين على المجلس العسكري و لجنة التعديلات إزالة جميع الموانع الدستورية المقيدة للحريات السياسية بما فيها حرية تشكيل الأحزاب و إلغاء جميع القيود و الموانع الدستورية في دستور النظام السابق، كما و ينبغي وضع ضمانات محددة لعملية إعادة صياغة الدستور الجديد و توقيتاتها، و ذلك قبل الشروع بأية إنتخابات بوقت يسمح بإعادة تشكيل الحياة السياسية أو على الأقل جزء منها. هذه جميعاً مطالب مشروعة لدى كل من المرشحين و القوى السياسية و قطاعات كبيرة من الشعب تبرر ما ينادي به البعض من ضرورة إدراجها ضمن التعديلات قبل الإستفتاء عليها.
من ننتخب رئيساً:
قررت السلطة العسكرية الحاكمة في مصر إجراء إنتخابات برلمانية أوائل صيف 2011، على أن تجري إنتخابات الرئاسة في نهاية الصيف أو أوائل الخريف من نفس العام، و هذا التسلسل أيضاً يمثل أحد الحلول الواقعية لإنجاح مشروع الثورة و ضمان عدم إختطافها. أية إنتخابات تتطلب و تحدث حراكاً سياسياً و هو ما يتوقع أن يرفع من مستوى الوعي السياسي و المشاركة السياسية في ظل الحرية السياسية النسبية الناجمة عن الثورة. الحراك السياسي و الوعي السياسي الناجم سيؤدي بالضرورة إلى إفراز قيادات سياسية و ناشطين يمكن النظر إليهم أو إلى بعضهم كمرشحين محتملين.
أما القول بأن الإنتخابات الآن ستفرز هذا الفصيل أو ذاك فهو طرح قاصر و غير مسؤول. الفصيل الرئيسي المحظور من قبل النظام القمعي أعلن موقفه بعدم إستهداف نصيب الأغلبية في أية إنتخابات في الفترة القادمة، مما يفسح الساحة لكل من يرغب بخوض المعترك السياسي و النزول إلى الشارع. كما أنه من البديهي سياسياً أن التعددية و الحيوية و التفاعلية السياسية تخدم كل جماعة وطنية و مشروعها السياسي بقدر ما تخدم الوطن و المشروع الوطني نفسه، إن لم يكن أكثر. من ناحية أخرى فإن التخويف من فلول الحزب الوطني فيه إستخفاف بوعي الشعب المصري الذي عبر عنه مشروع الثورة، و الذي يعرف الآن كيف يختار و من لا يختار، بل و يعبر عن خوف من نزول الشارع و الإحتكام إلى إرادة الشعب لعدم ثقة المرشح في رصيده في الشارع. و بدلاً من إثارة المخاوف من فلول الحزب يتعين على الجميع الإصرار على عملية التطهير لجميع رموز حزب النظام البائد الذين ما زال الكثير منهم بمنأى عن المساءلة، و نشر الوعي بمخططات بقايا الحزب و الواجهات الجديدة التي يحاولون الإستتار وراءها، و كذلك نشر الوعي بالمسؤولية الوطنية و الإنتماء إلى مشروع الوطن، و هو بالفعل ما يجري الآن في ربوع كثيرة من أنحاء الوطن. لا بد أن أشير هنا إلى أن جميع المرشحين المنادين إما برفض التعديلات الدستورية أو تأجيل إنتخابات مجلس الشعب إلى ما بعد الإنتخابات الرئاسية التي يطمعون بالفوز بها، يصرون على رفض أي مشروع سياسي من قبيل تأسيس حزب سياسي ببرنامج سياسي للمشروع الوطني بحجة عدم إتاحة تشكيل الأحزاب بالإعلان أو الإخطار كما تطالب الثورة، كما و يصرون على تجنب النزول إلى الشارع و التفاعل معه و طرح مشروعهم السياسي على القواعد الشعبية، و يعود ذلك ربما لقناعتهم بأن أن ما يلتف حولهم من الشباب يمثلون الشارع و هذا ليس بالضرورة دقيق بحد ذاته.
و يبقى السؤال الأهم للمنادين بإنتخابات رئاسية أولاً: على أساس أي دستور سينتخب هذا الرئيس؟ و هل يكفي مجرد إعلان دستوري لإنتخاب السلطة العليا في البلاد؟ و من سيصوغ هذا الدستور أو حتى الإعلان الدستوري؟ و لمصلحة من إطالة الحكم العسكري بل و حتى مشاركة العسكر في الحكم؟ و هو مطلب أمريكي بالدرجة الأولى، بغض النظر عن التصريحات، يتنافي و المشروع الوطني و مشروع الثورة في الإنتقال إلى سلطة مدنية منتخبة إنتخاباً حراً. أما القصور في التعديلات الدستورية المؤقتة فهو ما سيتم معالجته حتماً في الدستور الجديد المصاغ من قبل هيئة تاسيسية مختارة من قبل ممثلي الشعب، على فرض إشتمال هذه التعديلات على إزالة الموانع المعيقة للحياة السياسية كما ذكرنا سابقاً، كما و يحتاج الشعب الإطلاع على جميع التعديلات قبل موعد الإستفتاء عليها، و هي حسب ما يردده البعض ليست واضحة لدى كثير من الناس.
و يبقى الأهم بعد ذلك ضرورة طرح الدستور الجديد للإستفتاء بالأجزاء و ليس بالكلية بما يتيح تعديل بعض مواده، إذا رأى الشعب ذلك، قبل إقراره.
الموقف من الإنتخابات القادمة:
إن من أهم مكتسبات الثورة هو إستعادة الحق الأصيل في الحرية، و من أهم أوجه الحرية هو الحرية السياسية و حق الإختيار السياسي سواء في الترشح أو في الإنتخاب. القرار المعبر عن هذه الحرية السياسية يجب أن يكون قراراً رشيداً بمعنى معبراً عن تطلعات و طموحات صاحب القرار، و هذا ما يتطلب وعياً سياسياً يتأتى من التثقيف السياسي و بدء التفكير و إستكشاف و التعرف على مختلف المشاكل و الحلول و الآراء. فالحرص على الثقافة السياسية و التفاعل السياسي هو بداية تشكيل الوعي السياسي و الذي يشبه الثورة بمعنى الإستمرارية و التطور. و كلنا هنا بحاجة لثورة ذاتية على الجهل و القصور السياسي الذي عانينا منه في ظل النظام المستبد المحتكر للسياسة و الذي أسقطته الثورة.
ماذا نفعل الآن:
الأولوية القصوى أولاً هي للإنخراط في المشروع الوطني بدفع عجلة الحياة و تشغيل مؤسسات الوطن و صيانة أمنه، أما الإحتجاج و الإعتصام و إن كانت حقوقاً أساسية فنحتاج أن نطورها إلى إسهامات إيجابية في إثراء المشروع الوطني، من خلال العمل التطوعي و التضامني و الداعم للوطن و مؤسساته.
كذلك الأولوية القصوى لكل منا تشتمل على البدء فوراً بالتثقف و التفاعل سياسياً، و تنعقد الآن في ربوع الوطن ندوات و دورات تثقيف سياسي، كما و تزدحم الفضائيات و الصحف بالحوارات و النقاشات السياسية لمختلف قضايا الوطن. المشاركة و الحضور و المشاهدة و القراءة لهذه المواد و البرامج السياسية هو أول خطوة في تشكيل الوعي السياسي إلا أن الفاعلية السياسية و تكوين توجه و آراء سياسية يتطلب بالضرورة التفكير في هذه الأطروحات و تحليلها و التناقش فيها، و التوصل إلى قناعات ذاتية بناء على إطلاع و تفاعل مع هذه الأفكار.
إن نجاح الثورة يقتضي نجاح المشروع السياسي أولاً، كما و يقتضي نجاح و تطور بقية المشاريع الإقتصادية و الإجتماعية و التعليمية و الثقافية و الفنية و غيرها. المطلوب منا جميعاً رفض الوصاية الفكرية و السياسية التي عانينا منها في ظل النظام البائد.
الضمانة الوحيدة للتحرر من هذه الوصاية إنما يكون بالحرص على رفع الوعي السياسي والثقافة السياسية، تماماً كما حرصنا على رفع الظلم و الإستبداد عن الأمة التي يشكل كل واحد منا حجر أساس في مشروعها الوطني.
Comments
2 Comments on مصر بين العبث السياسي و بناء الدولة
-
frostwire on
Wed, 13th Apr 2011 6:29 pm
-
admin on
Mon, 18th Apr 2011 8:09 am
trying to find you on facebook, wats ur profile
My FB profile is Nidal Sakr