كيف يسقط الإنقلاب…دون لف أو دوران

بقلم:

د. نضـــال صـــقرِ

مضى قرابة العامين على إنقلاب العسكر على الشرعية الديموقراطية في مصر. كرد فعل للإنقلاب الدموي ظهر لدينا معارضة للإنقلاب العسكري الدموي بهدف دعم الشرعية و إسقاط الإنقلاب.

و الحقيقة أن الأعمال تقاس بالنتائج، و النتائج على الأرض تشير بوضوح أن كل يوم منذ وقوعه لم يزدد الإنقلاب إلا تجذراً و تكريساً بغض النظر عن كل الجهود لإسقاطه، و بغض النظر عن فشله و فساده و كثرة فضائحه و تسريباته، و خلافه.

و من هنا فلا بد من وقفة عند واقع اليوم يتم فيها جرد كل ما مضى و الخروج بكشف حساب لتقييم كل المرحلة السابقة و إعادة التعرف عليها، و مراجعتها، و تشخيص الإشكاليات و المشكلات و الأسباب و النتائج، و إلا فإن أي حديث عن دعم شرعية و إسقاط إنقلاب يصبح عديم الجدوى.

شروط إسقاط الإنقلاب:

أولاً: الفهم

والفهم هنا يجب أن يشمل:

ما هو الإنقلاب و مشروعه و أبعاده و اطرافه و مستوياته و مراحله و أهدافه و أدواته و تطوره.

و بالتالي قصوره و محدوديته و ثغراته و نقاط ضعفه و احتمالات ردود فعله للموثرات و المتغيرات.

كما و يجب فهم الإنقلاب في إطاره المنظومي كمشروع حضاري شمولي لا يعدو الإنقلاب أن يكون فيه أداة و كرت صلاحية، و بالتالي التصدي للإنقلاب يكون على مستوى مشروع يتجاوز لاعبيه المحليين و مموليه الإقليميين و مخططيه و مهندسيه الدوليين.

و قبل كل ذلك فهم أصول الدين فيمل يتعلق بالصراع الأزلي بين الحق و الباطل و الذي لا يعدو الإنقلاب بمختلف مستوياته و تفاصيله أن يكون مرحلة من مراحل هذا الصراع.

بدون هذا الفهم الشمولي أولاً لا يجوز مجرد الحديث عن إسقاط الإنقلاب لسبب بسيط.  إن الإنقلاب مجرد أداة مرحلية لمشروع حضاري يستهدف الأمة في عقيدتها أولاً ثم هويتها و تاريخها و وجودها و رسالتها الحضارية كتهديد للمشروع الحضاري الإستغلالي الإنتهازي المتوحش الذي يسيطر على العالم اليوم براسه الأمريكي و ذيوله في الشرق و الغرب.

ثانياً: التخلص من أسباب الفشل

قبل الثورة بسنين في “واقع الأمة..بين أزمة العولمة و عولمة الأزمة” شخصنا أن مشكلة مجتمعاتنا هو إستفحال ثقافة العجز و اليأس و الفشل.  و أثبتت التجربة أن الثورات العربية في الحين الذي نجحت فيه في تجاوز العجز و اليأس الذي كرسته عقود من الإستبداد، وقعت هذه الثورات ضحية ثقافة الفشل.

و الفشل عبارة عن منظومة لها أسبابها و نمطها التفكيري و وعاءها النفسي و عقلية تبرير الإخفاق و القبول به و إختلاق المبررات له بل و تخوين كل من يطالب بتشخيص الفشل و الإعتراف به و معالجة أسبابه.

الحقيقة أن الإنقلاب ليس الفشل بحد ذاته بالنسبة لحركة التحرر العربي و إنما نتيجة تراكمية للفشل.

وهنا لا بد أن نفرق بين الخطأ و الفشل.  نظراً لحداثة التجربة و التصحر السياسي في ظل إستبداد و قمع الديكتاتوريات  فإن الخطأ وارد جداً.  و الخطأ بحد ذاته مدعاة للنجاح و التميز بشرط التجرد في التعامل معه، و تشخيصه، و الإعتراف به، و التعرف على أسبابه، و الإستفادة من دروسه، ثم تطوير حلولاً لا تتجاوز آثاره فحسب، بل و تؤدي إلى نتائج أكثر فاعلية و إفادة للوصول إلى الأهداف و النتائج المرجوة.

ثالثاً: مشروع إسقاط الإنقلاب

كما ذكرنا الإنقلاب هو أداة مرحلية لمشروع.  لا يمكن التصدي له إلا على مستوى المشروع الكلي و الإطار الإستراتيجي الدولي و الإقليمي و المحلي.  و مجرد التحرك هنا و هناك دون فهم و إستيعاب ما سبق، و في إطار إرتجالي عشوائي “سبوبي” لن ينتج عنه سوى ما رأينا على مدى العامين الماضيين، و الثلاثة سنوات السابقات التي طبخ فيها الإنقلاب على نار هادئة بقدورنا و ملاعقنا و على بوتاجازنا، بل و إستمتعنا أيضاً بتذوقه أحياناً دون إدراك أن الطبخة سم زعاف للقضاء علينا و على أهل بيتنا.

و حتى نخرج من التنظير إلى الواقع سنتطرق هنا إلى محددات رئيسية لا بد من إستيعابها جميعاً، و إن كانت لا تغني عن مراجعة شمولية لكل ما ذكرنا.  و معايشتنا للواقع بتجاربه و مستوياته و أطرافه من الداخل تظهر لنا دون أدنى شك أن الواقع و مآلاته بيد الله أولاً ثم بيدنا نحن، لا بيد غيرنا، إلا أن تأخر سقوط الأنقلاب يغير الظروف التي نعيشها و نتعامل معها و قواعد اللعبة إلى صالح الإنقلاب أكثر بكثير من التغيرات لصالح سقوطه، و النتائج في الواقع و على الأرض خير برهان.

محددات الفهم:

أن المنظومة الدولية اليوم إنما هي حفاظ على واقع إستعماري إستبدادي إستعبادي إحتلالي شمولي تتغير فيها أحياناً الأدوار و الواجهات و المسميات. و أن المنظومة الدولية هي الإرهاب، الأمم االمتحدة بمجلس أمنها و أذرعها السياسية هي الإرهاب، أمريكا هي الإرهاب، حلفاء الإمبريالية الأمريكية بل و مناهضيها في الصراع على الكعكة الدولية هم الإرهاب، الأنظمة القمعية الشمولية الإستبدادية و بالأخص في كل دول العالم الإسلامي و العربي هي الإرهاب، إسرائيل كجزء من المنظومة الديكتاتورية العربية الإسلامية هي الإرهاب، أن نفط الخليج و أمواله لتمويل المذابح و الحروب و مصانع السلاح هو الإرهاب، و أن الإنقلاب كذيل صغير لذلك كله هو الإرهاب، و أن كل المبادرات السياسية و العسكرية بل و حتى “المشاريع الحضارية” و برامج “الدعم الإقتصادي” و “التبادل الثقافي” التي تجود بها المنظومة المهيمنة هي الإرهاب.

بعض محددات الفشل:

من المؤكد أن القصور في فهم الإرهاب كمنظومة و “مشروع حضاري” هو عين المشكلة.  تجد القيادي يلتقي السفيرة الأمريكية في مكتبه بمنتهى الأريحية و هي تهندس حثيثاً الإنقلاب بتفاصيله للإطاحة به و بجماعته و أهله و شعبه و بلده بل و دينه و أمته، و يتبجح بثقته بحسن نوايا الأمريكان لمجرد إيتسامة و كلمة معسولة دونما أدنى إدراك لخطورة الثغرة التي يقف عليها و نقف عليه جميعاً.  ثم بعد كل ذلك نخلط بين الرأي الشخصي الذي يستند إلى أهواء و إنطباعات و التقييم الموضوعي الإحترافي ليصبح سفاح دموي خائن غادر بين الغدر و الخيانة، حذر منه من تعامل معه مباشرة أثناء إدراته لمجازر موقعة الجمل و كشوف العذرية و أحداث بورسعيد و محمد محمود ومجلس الوزراء و غيرها، يصبح هذا السفاح بقدرة قادر صواماً قواماً بل و كاد يكون من أولياء الله و العشرة المبشرين بالجنة.

الخلل هنا ليس بالشطط و التهليس في حكم قيادي أو غيره على فرد ما، و إنما بالفردية و العشوائية و الإرتجالية في إتخاذ القرار بعيداً عن المؤسسية و المنهجية و الإحترافية و المعيارية، و كلها أصول شرعية في الولاية العامة و متطلبات لا غنى عنها لنجاح أي عمل جماعي.

ثم قيادي آخر يدردش سياسة على مقهى في ميدان تقسيم بعد أن كانت دردشاته سابقاً مع المبعوثة الأوروبية جزءاً أساساً من تكريس الواقع الإنقلابي في أخطر مراحله، بل إن دردشات كاثرين آشتون بحد ذاتها كانت عاملاً رئيساً في هندسة و توقيت و كيفية و إخراج مذابح الفض التي تخللت هذه الدردشات.

و عند معرض مراجعة و تقييم الدردشات العبثية مع المبعوثة الأوروبية كان رد “البشمهندس” “إحنا نعمل اللي علينا و الباقي على ربنا!!!!” بالطبع دون أدنى توضيح “هوه إيه ده اللي علينا و على ربنا”

دون الخوض في تفاصيل تعيق التدارك المرجو و المعالجة المنشودة للخلل، النتائج على الأرض تثبت لنا أن أي تحرك إرتجالي عشوائي عاطفي خارج إطار الإحترافية و المنهجية و المعيارية بل و التخصص هو في حقيقة الأمر إسقاط للشرعية و تكريس للإنقلاب، بغض النظر عن المسميات.

ملامح مشروع إسقاط الإنقلاب:

الإنقلاب مشروع ديناميكي متغير متدحرج جزئي تحت مظلة “مشروع حضاري إستعماري”.  و من هنا فإن التصدي للإنقلاب لا يكون إلا على مختلف مستوياته في إطار من الإستراتيجية و المبادرة.

و إن من أصول الشرع أن يعرف المسلم عدوه و يعرف قدره و إمكانياته و أهدافه و مشروعه و خلافه.  و التعرف على العدو لا يكون من الإنطباع و التوهم كما توهمنا قنوات الشرعية و إعلامييها.

لا بد من فهم الوعاء النفسي و محددات التفكير و آليات التفاعل و التأثير لدى الخصم.  لا بد من فهم دقيق لمعاول هدمه و بنائه و الأهم من ذلك كيف تستدرج الخصم لردود الفعل فتملي أنت عليه النتائج و الواقع و ليس العكس.

و لمشروع إسقاط الإنقلاب ملامح منهجية لا يمكن تجاوزها حددها آنفاً عنوان الشرعية في مصر و العديد من الشعوب التي تدين لقيادته، الرئيس الشرعي العربي المنتخب الوحيد ليس في مصر فحسب، بل كل الشعوب الإسلامية تقريباً عدا عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من الشعوب.  و حيث أن المشروع الحضاري التحرري القائم على صيانة كرامة الإنسان و إعلاء قيمة الحرية هو في حقيقة الأمر الإسلام كمنهج حياة، فيمكن الإسترشاد أيضاً بمرشد الجماعة السياسية الأم الحاضنة للمشروع الإسلامي، بغض النظر عن إخفاقات تجربة القيادة لهذه الجماعة.

إلا أن الواقع على الأرض و تعطش الإستبداد للدماء و القتل و التدمير و سرقة أنفاس الوطن يفتح إحتمالات كثيرة على مصراعيها للجم هذا الإجرام و الإرهاب الذي لا يحده حدود و لا يردعه رادع المتمثل عياناً في هذا الإنقلاب الغاصب الدموي الإرهابي الغاشم.

خلاصة:

المشاريع ليست دردشات و لا مقالات و لا خطب و لا أماني و تهيؤات و أوهام.  المشاريع هي واقع يصنع على الأرض لأجيال في الحاضر و المستقبل في ظل ظروف و مؤثرات و متغيرات.

لو أراد المهندس بناء عشة في مزرعة لأخذ بكل ما ذكرنا في الحسبان، فما بالك بهندسة الصراعات الأممية و الحضارية و واقع الشعوب و الأمم و العالم.

الفارق هنا أن صناعة التاريخ لا تدرس في معامل الهندسة و لا مختبرات الطب، و إنما في ميادين الحياة بالتسلح بأحدث الآليات و الإمكانيات لخلق الواقع و إحداث التغيير من جامعة قليل ما نرى لها خريجين أو حتى طلاب و ملتحقين.

هذه الجامعة أيها السادة إسمها “جامعة الفهم”…نتدراس فيها و نستذكر جميعاً إجابات لا يتحقق الإيمان ذاته إلا بالإجابة عليها جميعاُ: أفلا يتدبرون، أفلا تعقلون، أفلا تذكرون، أنى تبصرون.

Comments

Comments are closed.