أمريـكا و العـالم الإسـلامي

August 20, 2010 by
Filed under: Articles, مقـــالات عربيـــة 

“بين الشرعية و الأنظمة و الشعوب”

بقلم:  د. نضـال صـقر*

في لقاءات مع مسؤلين أمريكيين بارزين مؤخراً، بدا لي واضحاً مدى القصور لدى الأمريكيين في فهم حساسية و مركزية فلسطين في العلاقة بين العالم الإسلامي و الغرب عموماً و الولايات المتحدة على وجه الخصوص.

و قبل الخوض في موقع فلسطين من العلاقة بين أمريكا و العالم الإسلامي لا بد من التنويه أن فلسطين ليست هي جوهر الخلل في العلاقة بين الغرب و الإسلام و إنما هي المظهر الرئيسي للخلل لما يمثله إحتلال فلسطين و المشروع الإستعماري الإسرائيلي من رأس الحربة في مشروع حضاري غربي معادي لحضارة المنطقة و شعوبها و تاريخها.  بمعنى أن المشروع الإستعماري الإسرائيلي الغربي هو وجه من أوجه معاداة الغرب لشعوب و حضارة المنطقة و ليس هو أساس العداء.  و من هنا فالأحرى بدعاة الأمن و السلام العالمي البحث في ما هية العداء و أسبابه و مسوغاته، و التي يمكننا إجمالها عموماً بسوء الفهم المتبادل و عدم قدرة الغرب على إستيعاب أن مصلحته الإستراتيجية الكبرى و أن مصلحة السلام و الإستقرار العالمي إنما يكمن في التصالح مع شعوب المنطقة و حضارتها.

تكمن أهمية النتيجة أعلاه في أمرين إثنين:

أولهما:  بأن “المشكلة الإسرائيلية” هي مشكلة ورثتها أمريكا عن الغرب كوريثة للنفوذ الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تخلقها هي، و إن كان التحالف الأمريكي الإسرائيلي مسؤلاً بالدرجة الأولى عن تفاقم الأزمة الناجمة عن نشأة و وجود الكيان الإسرائيلي.

ثانيهما:  أن المشروع الإسرائيلي، و الحالة هذه، يمكن أن يخضع في مرحلة من المراحل إلى إعادة تقييم لمدى جدواه من منظور المصلحة الأمريكية.  و لقد رأينا على سبيل المثال تحليلاً صادراً عن أحد محللي المخابرات المركزية الأمريكية عقب جريمة الإعتداء على أسطول الحرية مباشرة يتساءل عما إذا أصبحت إسرائيل بالفعل عبئاً على الولايات المتحدة الأمريكية، و هو تساؤل يتردد في دوائر عدة في المؤسسة الأمريكية من حين لآخر.

و إذا أضفنا الحقيقة الأخرى و هي أن إسرائيل “ككيان غريب” عن نسيج المنطقة لا يمكن أن يقوم أو يستمر إلا في ظل العداء للآخر، ذاك العداء الذي يظهر من الحين و الآخر كالرابط الوحيد لتحقيق وحدة وطنية داخل المجتمع الإسرائيلي المتشرذم عرقياً و دينياً و مذهبياً و حتى سياسياً، بدى واضحاً مدى الشك فى جدوى المشروع الإستعماري الإسرائيلي للمصلحة الأمريكية بل و لمصلحة مكونات ما يسمى بشعب إسرائيل.

بحكم موقعي و خبرتي في الساحة الأمريكية، فإنني أختلف مع كثير من المفكرين و المحللين الذين يقتنعون بفرضية أن علاقة الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي تستند إلى عداء عقائدي و إستراتيجي بشكل مطلق و حصري. بل و أؤكد أن المنظور الأمريكي للمصلحة الإستراتيجة الأمريكية و ما يصطلح عليه بإحتياجات الأمن القومي الأمريكي تعد العامل المؤثر و الأهم في رسم السياسات الأمريكية في المنطقة و غيرها من مناطق العالم، بل و في وضع الإستراتيجيات الأمريكية بهذا الشأن.

بالطبع لا يمكن إنكار أهمية نفوذ جماعات الضغط و التأثير و اللوبي سواء كان صهيونياً أو غيره، و لكن إختزال التفاعلات العديدة المؤثرة في القرار السياسي الأمريكي بمجموعة بحد ذاتها يشوبه الكثير من السذاجة و التبسيط.  كما أن فاعلية تأثير اللوبي الصهيوني يستند عادة إلى وزنه في الساحة السياسية داخل أمريكا و ليس خارجها و ذلك من خلال الجهات الأمريكية الداعمة لإسرائيل سواء لدورها في تمويل الحملات الإنتخابية للمرشحين و حشد الدعم السياسي داخل الكونغرس و دوائر صنع القرار الأمريكي و غيرها، و هو ما يعطي الثقل السياسي لإسرائيل في القرار السياسي الأمريكي، و ليس إلى نفوذ إسرائيل نفسها ككيان خارجي.

و الحالة هذه، و بتوفر إنفتاح في أفق العمل السياسي على الساحة الأمريكية فإنه من الوارد جداً، و بتخطيط مدروس، أن تتكون جماعات ضغط فاعلة و مؤثرة تجيد اللعبة السياسية الأمريكية و التعامل مع العوامل و المتغيرات السياسية للتأثير على القرار السياسي الأمريكي في أي إتجاه، طالما نجحت هذه الجماعات في ترويج قناعة لدى كل من دوائر صنع القرار بالدرجة الأولى و الناخب الأمريكي بالدرجة الثانية بأن هذا الإتجاه المنشود فيه تحقيق للمصلحة الإستراتيجية الأمريكية.

أما عن دوائر صنع القرار في النظام السياسي الأمريكي فنعني بها السلطات المنصوص عليها في الدستور الأمريكي، و على رأسها هنا السلطة التنفيذية و يرأسها رئيس منتخب بأغلبية محددة من مجموع أصوات المندوبين الناخبين للولايات الفائز بأغلبية أصواتها، ويحدد عدد أصوات المندوبين الناخبين لكل ولاية تبعاً لمجموع عدد الناخبين المسجلين فيها.  يقوم الرئيس بإختيار طاقم حكمه من مستشارين، و رئيس و أعضاء مجلس الأمن القومي، و رئيس طاقم البيت الأبيض، و الوزراء، و قيادات الأجهزة الإستخباراتية و الأمنية و العسكرية، و الممثلين الشخصيين، و المبعوثين، و رئيس البنك المركزي و غيرهم.  و يشترط لسريان بعض هذه التعيينات موافقة أغلبية مجلس الشيوخ.  يتمتع الرئيس بصلاحيات كبيرة في مختلف مجالات إدارة الدولة و خاصة ملف السياسة الخارجية، إلا أنه في حين يمكن للرئيس إصدار مراسيم مؤقتة فإن سلطة إصدار القوانين الدائمة هي من صلاحيات المجلس التشريعي.

يتولى المجلس التشريعي بشقيه الشيوخ و النواب الرقابة على السلطة التنفيذية و كذلك سن القوانين و مراجعة و إعتماد الميزانيات و الموازنات، و يمكن الطعن في كل من المراسيم الرئاسية و القوانين الصادرة عن المجلس التشريعي من خلال اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا، و التي يقوم الرئيس و بموافقة مجلس الشيوخ بتعيين أعضائها التسعة و ذلك فقط في حالة حدوث شاغر، بالوفاة أو طلب التقاعد أو الإدانة الجنائية المستندة إلى إدانة تشريعية، في أحد أعضاء المحكمة الذين لا يمكن لا للرئيس و لا للسلطة التشريعية عزلهم أو إقالتهم بعد تعيينهم و إعتمادهم.

و يحتاج النظام السياسي الأمريكي لبعض التفصيل في شرح مستويات صنع القرار و التأثير فيه و تفاعلاته و الجهات المؤثرة فيه على صعيد السياسات المختلفة، و هو ما يحتاج بحثاً آخر، و إن كان ما يعنينا هنا بالدرجة الأولى السياسات و القرارات المتعلقة بالعالم الإسلامي التي تدخل أساساً ضمن صلاحيات الرئيس و فريقه، و هي المساحة الأكبر التي تحدد و تؤثر في العلاقة بين أمريكا و العالم الإسلامي.

و بطبيعة الحال فإن أي نظام ديموقراطي مؤسسي كالولايات المتحدة لا بد و أن يتأثر بالضغوط على صعيد السياسات المتبعة على المدى القصير، و على صعيد الثقافة السياسية السائدة على المدى الأطول، و على صعيد العقيدة السياسية الأكثر تأثيراً على كليهما، و الأطول أمداً كذلك.

من هنا فإن القصور الأكبر في التفاعل مع الولايات المتحدة يكمن في عدم القدرة على التواصل و التفاعل مع دوائر صنع القرار الأمريكي هذه بشكل مؤثر بما يعكس الرغبات و التطلعات الحقيقية للإنسان العربي و المسلم في الوقت الذي تحتكر فيه أنظمة قمعية مستبدة، تفتقد إلى شرعية الإنتخاب الحر و النزيه، هذا التواصل و التفاعل مع صانع القرار الأمريكي بما يخدم المصلحة الضيقة للأنظمة نفسها و يضر كثيراً بمصالح الشعوب المحكومة قسراً و المقموعة جهاراً نهاراً.

و في الحقيقة تمثل التجربة الفلسطينية منذ عام 2005 و حتى الآن حالة فريدة لتسليط الضوء على التفاعلات المحلية و الإقليمية و الدولية على صعيد كل من الطرف الفلسطيني و الأطراف العربية ذات الصلة، و الولايات المتحدة على حد سواء.

الشرعية، أنواعها، و مصادرها:

إن أي متابع للأخبار و الأحداث لا بد و أن يتطرق إلى مسامعه مصطلحات تبدو غامضة، إلا أن هذه المصطلحات عادة تستخدم لزيادة غموض ما هو جلي و واضح لهذا المتابع.  من هذه المصطلحات على سبيل المثال مصطلح الشرعية.  فكما نعلم أن تجربة الإنتخابات الفلسطينية الأخيرة، و التي فازت فيها حماس بأغلبية ساحقة في المجلس التشريعي الفلسطيني و الذي شكلت بموجبه الحكومة الفلسطينية الشرعية برئاسة الرئيس إسماعيل هنية، تكاد تكون أكثر التجارب الديموقراطية نجاحاً و شفافية في تاريخ المنطقة، و ذلك بشهادة العالم الأجمع و الولايات المتحدة و الإتحاد الأوروبي الذين راقبوا و أشرفوا على الإنتخابات، بل و أصروا على إجرائها.

 

الشرعية الدستورية:

من هنا فإن شرعية المجلس التشريعي الفلسطيني و الحكومة الفلسطينية المنبثقة عنه هي شرعية قطعية غير قابلة للطعن أو النقض ذلك بأنها تستند إلى الصوت الفلسطيني الذي إختارها بمحض إرادته، بموجب إنتخابات حرة شفافة و نزيهة.  أفرزت الإنتخابات الفلسطينية للمجلس التشريعي السلطتين التشريعية و التنفيذية و ذلك بموجب القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية الذي ينص على حق الكتلة الفائزة بأغلبية المجلس التشريعي في تشكيل الحكومة و رئاستها، في حين أفرزت الإنتخابات الرئاسية قبلها بعام سلطة الرئاسة أو رئيس السلطة الفلسطينية حين أنتخب الرئيس محمود عباس.  و قد نص القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية، و الذي تم وضعه و تعديله مسبقاً من قبل السلطة الفلسطينية السابقة بقيادة فتح، على الصلاحيات لكل من السلطات و العلاقات بينها.

 

الإنقلاب على الدستور:

نعلم جميعاً الإنقلابات التي حدثت على الإنتخابات الفلسطينية التشريعية الحرة و النزيهة و التي تمثلت بمستويات عدة:

أولها إنقلاب داخلي حيث رفضت الجهة الممثلة بسلطة الرئيس، و هي مجموعة متنفذة في حركة فتح، نتيجة الإنتخابات و سعت و ما زالت تسعى بكل الوسائل لإجهاض التجربة الديموقراطية الفلسطينية و إفرازاتها.  و من المفترض أن الشرعية كاملة غير منقوصة، بمعنى أن نقض شرعية السلطات التي أتت من خلال إنتخابات حرة و شفافة و نزيهة و المتمثلة بإنتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني يعني بطبيعة الحال نقض شرعية السلطة الشرفية للرئيس و التي أتت من خلال إنتخابات لا ترقى بأي حال من الأحوال لمعايير الحرية و الشفافية و النزاهة التي إتسمت بها إنتخابات المجلس التشريعي.

هذا الرفض تمثل أولا بتعطيل و عرقلة تشكيل الحكومة برئاسة الكتلة الفائزة و سلب المجلس التشريعي الجديد و الحكومة الجديدة صلاحياتها و ممارسة سلطات و صلاحيات على الكتلة الفائزة ليست من صلاحيات الرئاسة حسب القانون الأساسي، بل و تعديل القانون الأساسي بمراسيم رئاسية بدلاً من التعديلات التشريعية، بما يعد إنقلاباً دستورياً فادحاً يسقط بدوره شرعية السلطة الرئاسية المنقلبة و بشكل تلقائي.

الشرعية الدولية:

و لما لم تفلح العراقيل من قبل حركة فتح المهزومة في شل الحكومة برئاسة حركة حماس الفائزة، لجأت الرئاسة الفلسطينة إلى تحريض و إستعداء مجموعة من الحلفاء و الشركاء و المتمثلة أساساً بالشريك الأمني و التفاوضي إسرائيل، و الجارتين المسالمتين لإسرائيل مصر و الأردن و الحريصتين على منع إنتقال التجربة الديموقراطية إلى أي منهما، و الحليف الرئيسي لإسرائيل المتمثل بالولايات المتحدة، و الجهات الداعمة للسلطة الفلسطينية المتمثلة بالرباعية الدولية و التي تشمل الإتحاد الأوروبي و الأمم المتحدة و روسيا.

و إمعاناً في التعمية و التضليل أطلق على هذا الحشد من حلفاء الإنقلابيين مصطلح ” المجتمع الدولي أو الشرعية الدولية.”  وضع هذا الإفراز المجتمع الفلسطيني و الدولي أمام سلطتين متناقضتين تتمثل بكل من الشرعية الفلسطينية المنبثقة عن صندوق الإنتخاب الفلسطيني الحر، و ما يسمى بشرعية دولية من حركة متمردة و أنظمة ديكتاتوية مستبدة و دول معادية تاريخياً و إستراتيجياً لكل ما هو فلسطيني و عربي و مسلم.  و من المفيد هنا التنويه بأن ما يسمى بالشرعية الدولية هنا هو بحد ذاته يتناقض نصاً و روحاً و قانوناً مع كل ما هو قانوني و شرعي من مواثيق دولية و نصوص قانونية و شرائع إنسانية.

الإنقلاب على الشرعية:

في عالم غاب الشرعية الدولية هذا أخذ الإنقلاب على شرعية الإنتخابات مآخذ عدة من مقاطعة إقليمية و دولية، بضغوط من الشرعية الدولية المزعومة، إلى تواطؤ الحركة المهزومة في الإنتخابات مع المحتل الإسرائيلي في إعتقال رئيس و أعضاء المجلس التشريعي المنتخب، إلى قطع الرواتب و فصل الموظفين المحسوبين على أو المؤيدين للفائز في الإنتخابات، إلى تكثيف التنسيق الأمني مع المحتل لإغتيال و إعتقال و تعذيب المسؤلين المحليين و الناشطين و مؤيدي الكتلة الفائزة.  إلى الحشد العسكري و الإعداد لإنقلاب عسكري دموي بتسليح و تجهيز و تدريب من الأطراف الإقليمية، إلى تدمير البنية التحتية و المؤسسية للعمل الإجتماعي و الإقتصادي لكل من يشتبه بصلته أو تأييده للجهة الفائزة، إلى حصار غاشم خانق لنصف الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة، إلى حرب إبادة شاملة بتعاون و تخطيط و تآمر صريح و معلن من عاصمة أحد الأطراف الإقليمية للتحالف الدولي ضد الشرعية الفلسطينية، إلى عرقلة صفقة تبادل الأسرى بالتعاون مع طرف إقليمي بحجة منع الحركة الفائزة من تحقيق كسب سياسي، إلى هندسة ما يسمى بالإنقسام الفلسطيني بين الفصيل المتمرد و المتآمر و الحكومة الشرعية، و إحتكار تكريس هذا الإنقسام المزعوم من قبل طرف إقليمي بدعوى مصالحة مزعومة تهدم كل ما أنجزه االشعب الفلسطيني و خياره الشرعي و تقضي على آخر أمل في التحرر الوطني، إلى حصار أكثر ضراوة و إمعان في الإعتداء و الإغتصاب و الإنتهاك لما تبقى من الحقوق و الإنسان الفلسطيني من قبل المحتل أولاً، و حلفائه المحليين ثانياً، و حلفائه الإقليميين ثالثاُ، و حلفائه الدوليين أخيراً و ليس آخراً.

أما عن الذرائع و الحجج التي أتى بها حلف الإنقلابيين لشرعنة ما هو فج و إجرامي بنص كل الشرائع فحدث و لا حرج، و لربما كان أكثرها مجاجة ذلك الإختراع المسمى بالمصالحة الفلسطينية بين طرف إنقلابي ليس فقط على الشرعية بل على القضية الفلسطينية برمتها من خلال التحالف مع العدو، و هو الخيانة الموجبة لأقصى عقوبة بنص الدستور و القانون، و بين السلطة الشرعية الحاكمة أيضاَ بنص الدستور و القانون.

الشرعية و الحريات:

من المعلوم أنه و بنص جميع الدساتير الوضعية بمعنى المدنية بأن الشعب هو مصدر جميع السلطات.  و من الملحوظ بأن المنادين بمدنية الدولة و الدستور كثيراً ما يكونوا هم أنفسهم العقبة الرئيسية أمام المدنية سواء كانت دستورية أو غيرها.

و حتى يتمكن الشعب من التعبير عن إرادته و إختياره فلا بد له ما الحرية، أما عن وجوه هذه الحرية فعلى عكس ما يتخيل البعض بإقتصارها على حرية التصويت تمتد هذه الحرية لتشمل مختلف مناحي الحياة المدنية من حرية التعبير أولاً ثم حرية الصحافة و التجمع و تشكيل الأحزاب و الترشح و العديد العديد من الحريات التي بدونها تبقى الديموقراطية مجرد إسم لعصبة حاكمة أو إنتحال غير مشروع لصفة وهمية.

و لو أخذنا مثال الديموقرايطة الأمريكية الناشئة، على علاتها، و التي ما زالت في طور النمو و النضوج نرى أن الحرية لا تبدأ و لا تنتهي بصندوق الإقتراع، بل هي عملية ديناميكية متلازمة مع مختلف جوانب الحياة بل و تخضع لمراجعات و نقاشات مستمرة لطبيعتها و حدودها دونما مساس بالحريات المنصوص عليها دستورياً و التي ذكرنا بعضها سالفاً.

و يخطئ من يظن بأن الولايات المتحدة هو كيان ولد ديموقراطياً أو إنبثق عن ثقافة و تقاليد ديموقراطية، فالولايات المتحدة هي نفسها سليلة قرون من العبودية و الإستعمار و الحروب الأهلية و التحولات التي أفرزت بمجموعها نظاماً ديموقراطياً لمجتمع يعد من أكثر مجتمعات العالم قاطبة تنوعاً في العرق و اللغة و الثقافة و الديانة، في حين إفتقرت معظم المجتمعات المكونة له إلى ثقافة و ممارسات و تقاليد ديموقراطية.

و لو قارنا المعطيات و التقاليد العقائدية و التاريخية و الثقافية الأصيلة لشعوب المسلمين على سبيل المثال في قبول الآخر و تعدد الرأي و أدب الحوار و السلام و التعايش الإجتماعي و التفاعل و الإنفتاح الحضاري، لكان من الأجدر و الأحرى أن تكون التعددية الديموقراطية وليدة المجتمعات الإسلامية لتصدرها إلى العالم أجمع، و ليس العكس.

 

مصادر الشرعية:

كما رأينا فإن الشرعية تستند إلى الإختيار الحر للشعوب.  و حتى يكون الإختيار راشداً بمعنى معبراً عن رغبات و تطلعات الناخب فلا بد للناخب من حرية التعرف على الخيارات المطروحة و برامج المرشحين، كما و لابد للمرشح من أن يتمتع بالحرية الكاملة في التعريف ببرنامجه و آرائه في إطار سلمي و آمن، و من هنا أصطلح على الصحافة و الإعلام الحر ب”صاحبة الجلالة” لما لدورها من قدسية في بلورة الإرادة الحرة للشعوب.  و يعد التعدي على حرية الإعلام و ما يسمى ب”الإعلام الحكومي” أخطر تعد على الحريات العامة قاطبة لما فيه من حجر على حق المعرفة و إنتهاك لحرية التعبير و هي الحقوق الدستورية الأكثر أهمية في الدساتير المتقدمة، بل و هي الأمر الأول و الأساس في الدستور السماوي الشامل المتمثل بالقرآن الكريم.

 

الواقع الدولي:

يخطئ من يظن أن الإنسان دموي بطبعه، و هو ما يبدو قناعة الأطراف المتآمرة على خيار الشعب الفلسطيني.  ففي الوقت الذي باركت هذه الأطراف جميعاً حرب الإبادة الصهيوينة على غزة و قبلها على لبنان، رأينا الشعوب من أقصى الأرض إلى أقصاها على إختلاف أجناسهم و دياناتهم و ثقافاتهم تنتفض ضد هذا التعدي الصراخ على حياة و كرامة الإنسان.  ثم رأينا، و على الرغم من حملة التضليل الهائلة، الإنتفاضة التي إجتاحت العالم إستنكاراً للجريمة الإسرائيلية بحق أسطول الحرية.  و ليس أبلغ من التحالف الشعبي و الرسمي العالمي المتعاظم في الإنضمام إلى أساطيل و قوافل الحرية من دليل على الإرادة الحرة لشعوب العالم، بما فيها الجاليات اليهودية، في رفض عدوان ما يسمى ب”الشرعية الدولية” على حق الإنسان و كرامة الإنسان في فلسطين.

 

مفارقة الموقف الرسمي و الموقف الشعبي:

إذا كان حال الشعوب في الدول المستبدة و الديموقراطية على حد سواء كما أسلفنا، فكيف نفسر المواقف الرسمية المؤيدة لإسرائيل و المتناقضة مع الموقف الشعبي في دولة ديموقراطية كالولايات المتحدة؟

 

بشكل عام يعتبر الناخب الأمريكي و بالتالي المرشح الأمريكي أقل ثقافة و دراية فيما يتعلق بمنطقتنا لأسباب عدة أهمها قلة التجربة التاريخية و التفاعل مع شعوب المنطقة مقارنة بشعوب أخرى كشعوب أوروبا مثلاً، إضافة إلى سيطرة كبيرة و لا أقول مطلقة للجهات المؤيدة لإسرائيل على و سائل الإعلام الأمريكية.

 

إلا أنه من الرغم من ذلك تبدو دوائر صنع القرار أكثر وعياً من الناخب، و نرى أحياناً مواقف و نقرأ تقارير عن تباين في وجهات النظر داخل دوائر صنع القرار بين مؤيد بالمطلق و محذر و مشكك من نتائج مثل هذا التأييد و هذه العلاقة الإستثنائية.

 

فعلى سبيل المثال، و لأول مرة في تاريخ الإدارات الأمريكية، تدخلت الإدارة الأمريكية صراحة في الإنتخابات الإسرائيلية لصالح مرشح دون آخر عندما أطلقت إدارة الرئيس أوباما تحذيراً عشية الإنتخابات الإسرائيلية من فوز حزب الليكود الحاكم حالياً و أعلنت بأن فوز الليكود لا يخدم المصلحة الأمريكية في المنطقة.  و في تقديري بأن الدوائر الأمريكية أساءت هنا قراءة الدافع النفسي للناخب الإسرئيلي حيث يرجح بعض المراقبين بأن التصريح الأمريكي ربما خدم مرشح الليكود أكثر من الإضرار به نتيجة النظرة العدائية للناخب الإسرائيلي تجاه الولايات المتحدة، و هي نظرة لها أسباب عديدة لا مجال لإستعراضها الآن.

 

كما و لاحظنا الفتور الذي قابلت به الإدارة الأمريكية فوز رئيس الحكومة الحالي و إستنكافها عن دعوته، على غير العادة، للبيت الأبيض عقب فوزه إلى بعد أن قامت “الأطراف الإقليمية” في التحالف الدولي و المعادية للخيار الفلسطيني بإستضافته و إرسال مندوبين رسميين لإقناع الإدارة الأمريكية بالتجاوب مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة.

رأينا كذلك الضغوط التي مارستها الإدارة الأمريكية على الحكومة الإسرائيلية لوقف الإستيطان بما فيها اللقاء العاصف و المهين لرئيس الحكومة الإسرائيلية في البيت الأبيض و ما قابله من ضغوط داخلية من جهات مؤيدة لإسرائيل إضافة لأطراف عربية و إقليمية مساندة لإسرائيل تتمثل بوساطات لدى الإدارة الأمريكية و إستضافات لا متناهية في المنتجعات الإقليمية للمسؤلين الإسرائيليين بل و مواقف و إجراءات مساندة و داعمة للتغول الإسرائيلي، و ذلك بالطبع تزامناً مع إطلاق الأنظمة الإقليمية الصديقة لإسرائيل تصريحات عنترية مضللة ضد الكيان الإسرائيلي، و رأينا كذلك السياسات و الإجراءات التي تضطلع الأنظمة نفسها بجزء كبير منها.  كما لا يخفى أهمية مطالبة إسرائيل نفسها إستبدال أمريكا كراع للمفاوضات مع السلطة الفلسطينة بطرف إقليمي صديق تعتبره إسرائيل كنزاً إستراتيجياً لها و ما يعكسه هذا من حقيقة التحالفات و أثرها في الأحداث الإقليمية، و هذا ما نجحت إسرائيل فيه أخيراً حيث يرى المراقبون أن إنتقال الرعاية المباشرة للمفاوضات المباشرة إلى الطرف الإقليمي بناء على طلب إسرائيل يشكل أكبر ضمانة لدعم إستمرار النظام في الدولة الإقليمية الراعية.

 

خطاب القاهرة:

لربما كنت من أشد المحذرين من خطاب أوباما بالقاهرة و المشككين في نتائجه.  و يعزو شكي ليس بالضرورة إلى نوايا الرئيس أوباما و التي لا يعلمها إلا الله، و إنما إنصب شكي على الكم الكبير من القيم العالمية التي ركز عليها الخطاب دونما توضيح كاف لمعنى و مفهوم تلك القيم.  فحرية الشعب عند الغرب معناها أوجه الحرية كما ذكرناها.  أما مفهوم حرية الشعب لدى الأنظمة المستبدة فهو حرية النظام لقمع الشعب و الحجر عليه بالصورة التي يراها النظام مناسباً و ذلك لقناعة النظام بأنه الأدرى بمصلحة الشعب، و ذلك على فرض أن النظام المستبد مقتنعٌ بأن حكمه من مصلحة الشعب.  و هذا ما عبر عنه أحد رؤساء الوزراء “الديموقراطيين” في المنطقة في تصريح مشهور بأن شعبه ليس جاهزاً للديموقراطية أو لإختيار قيادته.

مستقبل أمريكا و العالم الإسلامي:

يعد العالم الإسلامي أهم بؤر إهتمام الإدارة الأمريكية الحالية و هو ما يبدو جلياً من خلال الكم الهائل من المبادرات و المؤتمرات التي ترعاها الإدارة في المنطقة و حول العالم.  و في تصوري أنه من المبكر الحكم على جدوى و فائدة الحوار بين الشعوب الإسلامية و أمريكا، في حين نرى جميعاً مدى خطورة إقتصار هذا الحوار على القنوات الرسمية العربية التي لا ترجو لله و لا لشعوبها و قاراً.

من هنا فلا بد من تطوير أسلوب الخطاب و التفاعل مع الآخر عموماً، و مع الغرب و أمريكا بشكل خاص، لدى الحريصين على مصالح الأمة.  و لربما كان من الأجدى الإلتفات إلى تطوير ثقافة التفاهم و التفاعل و التعامل مع الآخر بما يحقق مصلحة الطرفين دونما تفريط بالمبادئ و الثوابت و الهوية الثقافية و العقائدية.

و لو نظرنا إلى مبادئ شريعتنا السمحاء لوجدناها تحث على الموعظة الحسنة، و المخاطبة على قدر العقول، و التحدث إلى الناس باللغة التي يفهمون، و الإنفتاح مع الآخر دونما تمايع أو تمييع.

و نحن إذ ندعو للتواصل و الحوار كواجب حضاري، لنؤكد على أنها ليست الطريق الوحيد لتحقيق المصالح و الأهداف، فكما علمنا الديموقراطي الفلسطيني أنه لا حوار بلا كرامة، و لا تواصل بلا عزة، و لانصر دون تضحية و عقيدة و ثبات.

____

رئيس المنظمة الأمريكية لحقوق الإنسان (عدالة)، أمين عام الرابطة الأمريكية للعدالة و السلام ، عضو المجلس الإستشاري للمفوضية الفدرالية الأمريكية للحقوق المدنية ، عضو مجالس إدارة الإتحاد الأمريكي للحقوق المدنية ، عضو اللجنة الإسلامية العالمية لحقوق الإنسان، عضو الهيئة القانونية الإسلامية العالمية، و غيرها.

 

Comments

Comments are closed.