كــــــــــــــلام في اللـــــــــــــــــيبرالية
بقلم نضال صقر
يكثر في السوق السياسي “ما بعد الثورة” إستخدام الكثير من المصطلحات السياسية، و رفع شعارات و إعلان تحزبات و إستقطابات بل و عقائد سياسية يرددها الكثيرون، و يدعي الرمزية لها كثيرون، و يبدو كأن السياسة أصبحت عدو الكياسة، و كأن التصحر و الحرمان السياسي أخرج الحس السياسي لدى الكثير من المصريين على شكل كرنفال متعدد الألوان و الأطياف و “الكلام الكبير”، و يجعلنا جميعاً نتساءل: هل يمكن أن يخرج هذا العبث و التخبط السياسي من رحم ثورة عظيمة غير مسبوقة كتلك التي شهدنا و شهد لها العالم أجمع؟.
سنحاول هنا قراءة المشهد السياسي في “مصر ما بعد الثورة” و ليس “مصر الثورة” و التعرف على بعض ملامح المشهد و دلالاته، كما سنتعرف على معنى مصطلحات رائجة مثل “ليبرالي” و “علماني” و “إسلامي” في سياقين أولهما البيئة التي نشأ فيها المصطلح، و ثانيهما إسقاط هذه التجربة على الواقع المصري.
كما تعودنا لا بد أولاً من وضع المفاهيم في سياقها الواقعي و توضيح دلالاتها العلمية و الفكرية.
أولاً: أكرر أن ما حدث في مصر ليس “ثورة” بالمفهوم الفكري و النظري و العلمي و التاريخي، و أن كل من يصر على توصيف ما حدث في مصر بالثورة هو إما جاهل سياسياً و أكاديمياً، و إما مسيء لمصر و الإنسان المصري عن قصد أو غير قصد. ما حدث في مصر هو تحول حضاري غير مسبوق في تاريخ الأمم و الثورات و لا يوجد له حتى الآن تصنيف واضح في علم السياسة، بل و يجري ضمن الدوائر الفكرية و البحثية و الأكاديمية حول العالم الآن نقاشات جادة لمحاولة إيجاد تصنيف لما حدث في مصر. و أجزم هنا أن الإسهام الحضاري الإنساني لمصر في “ثورتها” سيثبت نفسه على مدى التاريخ بالإسهام الأعظم الذي لا يدانيه “حضارة” فرعونية أو حتى مولد كبرى الحركات الإنسانية المعاصرة.
إستخدامنا المجازي لمصطلح “الثورة” يأتي هنا لحين إستنباط مصطلح جديد يليق بمصر و تحولها الحضاري غير المسبوق، الذي هو بحد ذاته كفيل بإعادة مصر إلى ريادة الركب الحضاري في العالم أجمع.
من هنا يتضح السبب في تفريقي بين “مصر ما بعد الثورة” و “مصر الثورة”. الثورة كما هو متعارف عليه لغوياً و تاريخياً هي حدث مرتبط بالهيجان و العنف، لا تحتل العقلانية و المسؤلية فيه مركز الحدث، يتمثل بإصطدام مع واقع مرفوض. نتيجة لهذا الإصطدام العنفي يسقط ضحايا مادية و بشرية و معنوية، و يتمخض واقعاً مغايراً إما بهدم ما سبق، أو إخماد و خمود الثورة، أو واقعاً مزيجاً بين ما سبق و واقع جديد نتيجة الصدام.
و بالتالي الجدل هنا هو هل مصرنا اليوم هي “مصر ما بعد الثورة” أم “مصر الثورة”؟ و سأختار هنا أن أوضح الفرق بينهما و أترك للمصري أن يختار أي مصر يريد، ثم نتعرف جميعاً على ملامح مصر التي إختار المصري أن يصنعها بنفسه و لنفسه.
“مصر الثورة” هي بالتعريف مصر التي تعيش تجربة الثورة و مرحلة من مراحلها و فق التصنيفات السابقة للثورة و نتائجها. و في الحقيقة إن الصخب الإعلامي و قفز الكثير على “سبوبة” الثورة هو المسؤل الأول عن حالة التشويش لدى الكثيرين، و عدم قدرتهم على إستيعاب البعد الحضاري الإنساني “لثورة” الخامس و العشرين من يناير المجيدة. كثيراً نجد أن من يتحدث في تصنيف ما حدث في مصر كثورة هو أولاً لم يكن جزءاً منها، و لم يعش تجربتها، أو ليس متخصصاً من الأصل في علم السياسة أو أي من العلوم الإنسانية. فمثلاً شاهدنا طبيب أسنان أو أطفال متخصص في روايات الشذوذ، و أعلن عداءه للثورة بعد إندلاعها، يقدم في الفضائيات على أنه “دكتور” في علم الثورات، و غيره الكثير من الظواهر المسلية. و من هنا فليس بالغريب على الإطلاق، و الحالة هذه، أن يختلط حابل الثورة بنابل اللاثورة.
تصوير ما حدث في مصر على أنه ثورة بالمفهوم السياسي التقليدي هو تحديداً ما يتخذه الخارجون على المشروع المصري و أعداء الثورة المصرية، على حد سواء، ذريعة لتبرير الفوضى الثورية و حالة التخبط و التشرذم و الإنقسام في الشارع المصري الآن.
أما “مصر ما بعد الثورة” فتعني ببساطة أن “الثورة” بمعنى المواجهة و الصدام مع النظام البائد كانت مجرد مرحلة من مراحل المشروع المصري التحولي الحضاري، يستتبعه مراحل أخرى ترتقي حضارياً نتيجة لتراكم مخزون التجربة الحضارية المتمثل بالتحول الحضاري، و الذي كانت أحداث الخامس و العشرين مجرد بداية له يحلق بعدها بعيداً في آفاق المشروع الحضاري الإنساني.
أنا شخصياً أرى أن الإنسان المصري برصيده التاريخي و الحضاري، و بتحمله أبشع أنواع الظلم و القهر و الحرمان دون فقدان الأصالة و الهوية، لا يليق به إلا أن يرتقي ليكون النموذج الذي تتحرر به الإنسانية من كل ما هو قبيح و مقيت.
بدلاً من تحول القوى الثورية إلى البناء و الإنخراط في مشاريع التحول الحضري كما رأينا بدءاً من تنظيف الشوارع و تزيين الحدائق و حملات التمسك بالسلوك الحضاري، نرى المسيئين إلى مصر و “ثورتها” يقحمون الشباب في فوضى ثورية و جدالات عقيمة حول إستفتاء و دستور و حملة هذا و ذاك. و أنا أقول ما لنا جميعاً و هذا العبث؟
في الخامس و العشرين من يناير مصر لفظت إلى غير رجعة كل تهميش و تقزيم لها و لمكانتها في ظل النظام البائد، و خطت أولى خطواتها لإستعادة العزة و الكرامة. مصر ليست بحاجة للإنقياد وراء التفاهات و التافهين بعدما إنتصرنا على أنفسنا و أصبحنا، شئنا أم أبينا، مصدر وحي و إلهام لشعوب الأرض قاطبة، و نموذجاً يحلم الكثيرون بالإقتداء به. و أنا أقول بكل وضوح بأن نجاح المشروع المصري في التحول يعود الفضل فيه إلى الله وحده أولاً، ثم إلى عموم المصريين مدنيين و عسكريين، مسلمين و مسيحيين، فقراء و أغنياء، شباناً و شيباً، و “إسلاميين” و “غير إسلاميين.”
إن الثائر المصري بحق، الأمين على ثورته، هو بطل الميدان الذي لا يلتفت عن مشروع بناء مصر الجديدة و ينصرف عنها وراء من سطر بطولاته في أستوديوهات الإعلام، أو صفحات الجرائد الصفراء، أو صالونات الميسر السياسي، و حفلات السفارات، أو حتى أروقة الوكالات و المنظمات الدولية التي تعيث في الأرض الظلم و الفساد.
و بإختصار شديد فإن كل من يتصدر مشهد الجدل و الإحتقان السياسي الآن هو واحد أو أكثر من هذه التصنيفات التي أوردت.
العلمانية:
ظهرت في أوروبا في “القرون الوسطى” و هي “ما بعد الحجرية”، و التي لا تقل تحجراً، فترة من الظلم و الجور الذي تمثل بزواج الكنيسة و الدولة و تغولهما على أبسط الحقوق الإنسانية، و هو ما يعرف بعصر الإقطاع، و الذي تخلله الحملة الصليبية الغاشمة على الشرق التي إنتهت بتقويض المشروع الغربي الهمجي في ذلك الوقت. بعد أن طفح الكيل بالإنسان الأوروبي من جور الملك و الكنيسة إنفجر غاضباً و ثار، و أصر على قطع الطريق على هذا الزواج الفاسد بين الكنيسة و الدولة، و أصر على طلاق بائن بينونة كبرى بينهما سمي “بالعلمانية”. و في الحقيقة فإن الكثيرين في الغرب نتيجة تجربتهم التاريخية المريرة ما زالوا يرون الدين و التدين مظهر من مظاهر التخلف و الخطر على المدنية الحديثة.
إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن العلمانية بالمفهوم السياسي النظري تعني فصل الدين عن الدولة، و لا تعني بالضرورة العداء للدين. كثير من الدول الحديثة اليوم غربية كانت أو شرقية تقوم على النظام العلماني، إلا أنه من الصعب الحكم بإنفصال الدين عن الدولة في هذه الدول “العلمانية.”
العلمانية الأمريكية:
نجد على سبيل المثال في الولايات المتحدة أن الدين جزء اساسي من الهوية السياسية على الرغم من “علمانيتها.” فلو نظرت إلى الدولار الأمريكي الآن، وقبل أن ينقرض كعملة عالمية، تجد عبارة معناها “نؤمن بالله”. كذلك فإن جزء من القسم الأمريكي الرسمي عند تولي منصب حاكم ينص على “شعب واحد موحد تحت الله.” أما عن رؤساء أمريكا فعلى الرغم من تنوع الأعراق و الديانات و المذاهب التي يتجاوز “الرئيسي” منها السبعين مذهباً و ديانة نجد أن جميع رؤساء أمريكا السبعة و الأربعين منذ نشأتها و حتى الآن ينتمون إلى نفس الطائفة الدينية و هي البروتستانية ما عدا إثنين قط ينتمون إلى طائفة أخرى و هي الكاثوليكية. أما باراك أوباما فهو حقاً ظاهرة فريدة من نوعها حيث تربى على الإسلام، و درس في “كتاب لتحفيظ القرآن” في طفولته، و إلتصق بالمسلمين و ساكنهم، و إعتمد عليهم تمويلاً و تزكية للإلتحاق بكبرى الجامعات، و لم يعرف عنه إرتياد كنيسة قط حتى بعد تخرجه من الجامعة حيث إلتحق بكنيسة معمدانية يرأسها كاهن “ثوري” معروف بنصرته للحرية و حقوق الإنسان، و لا يقل خطابه إنسانية و معاداة للظلم و الإستبداد عن الخطاب الإسلامي الأصيل المنادي برفع الظلم و صيانة كرامة و حرية الإنسان. إعتبارات الفوز بالرئاسة الأمريكية دفعت أوباما هذا إلى التنصل من كنيسة الكاهن “رايت” إلى كنيسة أخرى، و ذلك كمرحلة من مراحل التحول الديني الدايناميكي المتطور لهذا الرئيس الجدلي الدائم النشوء و الترقي، و للوفاء “بالأهلية الدينية” للمنصب.
فالدين و التدين هو جزء من إنسانية الإنسان حيث يحن كل مخلوق إلى خالقه بفطرية، و محاولة فصل الإنسان عن بعده الروحي ما هو إلا هراء في هراء.
أما عن سياسات أمريكا فنجد أن الطابع الديني هو الغالب على هذه السياسات، و ما حرب أمريكا على الإسلام و المسلمين وما يسمى زوراً “بالحرب على الإرهاب” إلا قمة جبل الجليد في التعصب و التطرف الديني الذي يصطبغ به الكثيرين من صانعي القرار الأمريكي.
أما المسؤلية عن التطرف الديني الأمريكي ضد الإسلام فمرده بالدرجة الأولى إلى فشل المسلمين الأمريكيين في التواصل البناء مع أقرانهم من الأمريكان، و إنشغالهم بمصالح ذاتية عن دورهم الحضاري في التواصل و التعارف مع الشعوب.
و بحكم تجربتي الشخصية في المجتمع الأمريكي و غوصي في مكونات الهوية الأمريكية فإنني أجزم دونما أدنى شك أن الإنسان الأمريكي سيسير يوماً ما على خطى الإنسان المصري، و أن التجربة الأمريكية ستقدم يوماً ما نموذجاً إنسانياً حضارياً تنسجم فيه القيم المعلنة مع الشخصية الحضارية، و كل ذلك في سنوات معدودة لا تخطر ببال الكثيرين.
بالمناسبة، العلمانية الأمريكية ليست هي النموذج الغربي الوحيد، بل هناك الكثير من النسخ الأوروبية و غيرها تتفاوت فيها جميعاً النظرة إلى الدين. إلى أن فوز اليمين المسيحي في كثير من الدول الغربية يشير بكل وضوح أن الفصل بين الدين و القرار السياسي هو مجرد أوهام و خزعبلات ليس لها في غالب الأحيان وجود على أرض الواقع.
العلمانية المصرية:
نأتي هنا للعلمانية المصرية. بطبيعة الأمر كل شيء مصري له طابع خاص، فالمصريون معروفون بتميزهم و إصرارهم على إضفاء و إختيار “النكهات.” و كلنا يذكر بطبيعة الحال حملة جمال مبارك للتوريث التي كان أحد شعاراتها شعاره الشهير “أنا إخترت طعم الكوسا” و التي لم ينسى أن يؤكد فيها على نسخته من “دعم الديموقراطية” و إصراره على “الإختيار الحر و النزيه” حين أردف قائلاً بمنتهى البرود: “إنت إخترت إيه؟؟؟”
حقيقة و من حواراتي مع الكثيرين ممن أكن لهم كل الحب من الأقران و الناشطين و المفكرين على الرغم من الإختلاف السياسي مع بعضهم، فأنا أجزم و بكل وضوح بأن العلمانية في المفهوم المصري تعني العداء للدين. و الغريب أن الكثير من العلمانيين المصريين هم من المحافظين على الصوات و تلتزم نساؤهم بإرتداء الحجاب. و من هنا فإن العداء للدين يأخذ شكل فصل الدين عن السياسة. أقول العداء للدين لأن الدين هو السياسة على عكس ما يروج البعض أو يستعصي عليهم الفهم.
على عكس أوروبيي عصور الظلام، تجربتنا مع الإسلام كانت تجربة سيادة حضارية و علمية، و رقي في الحياة المدنية و السياسية، و إزدهار في كل مناحي الحياة، و إثراء الحياة الإنسانية لكل بني البشر لقرون ما زلنا نعيشها. فعلى أي أساس ينادي البعض بالفصل بين الدين و الدولة أو الدين عن السياسة؟ الكثير من رواد النهضة المصرية كانوا من مسيحيي مصر و شيوخ أزهرها، لعبت هويتهم الدينية العامل الأكبر في صياغة نهضة مصر الحديثة، فمن أين يأتي لنا من ينادي بمحاربة “ملح أرض” مصر و هويتها؟
أيها السادة، دعونا جميعاً من العبث و الخوض فيما لا نفهم معانيه و أبعاده، فالمسؤلية الحضارية تدعونا إلى “النشوء و الترقي” في الوعي و النضوج، بدلاً من فتح بلاعات ترديد كل ما هو جاهل و غريب على مصاريعه برائحته “المش كويسة.”
أنا أفهم تماماً ضرورة المعاصرة و التجديد في كل من الفهم و الخطاب الديني. أنا أفهم جيداً و أول من ينادي بضرورة الإرتقاء بالهوية و مفهومنا لها لقيادة قاطرة الركب الحضاري و السعادة البشرية. و أحمل الإسلاميين قبل غيرهم مسؤلية الإلتفات إلى هذه المسؤلية الحضارية لتعود الهوية الدينية هوية حضارية فكرية أيضاً. الإسلام لم يعد و لن يكون يوماً حكراً على أتباعه، فالحل الإسلامي هو الحل الفطري للإنسان مهما كانت ديانته و أياً كان مذهبه.
حتى نتفرغ للنهوض بالدين ودوره في الحياة لا بد أن ننصرف جميعاً عن محاولات هدم الدين و الهوية، و الإنسياق وراء من لا يريد بمصر و أهلها و حضارتها و ثورتها خيراً.
فبعد الخامس العشرين من يناير لم يعد المصري مسلماً أو مسيحي، ليبرالياً أو علماني، إسلامي أو وضعي، عسكري أو مدني. أصبحنا كلنا إما أبناء “ثورة”،…….. و إما أولاد “حرام ثوري.”
………….و للحديث بقية.
Comments
One Comment on كــــــــــــــلام في اللـــــــــــــــــيبرالية
-
Dr Alaa hamouda on
Tue, 13th Sep 2011 3:16 pm
It was nice to meet you today in the conference at Opera. I like this issue. I hope to see you soon.