خطـاب الإخوان بين الإسـتراتيجية و الإرتجـالية
إعداد: د. نضـال صـقر
بحكم المسؤلية التاريخية و الحضارية يتحمل الإخوان المسلمون من المسؤلية و يقع عليهم من الواجب ما لايقع على غيرهم.الإخوان كما أصررت دائماً هم مشروع أمة ليس حكراً و لا محصوراً على قياداتها و أفرادها و إن كان للجماعة كل الحق أن يكون لها إعتباراتها التنظيمية الداخلية و الحركية الخاصة بها، شأنها في ذلك شأن أي جماعة أو منظمة أخرى.
المشروع الإخواني لم يكن في يوم من الأيام صدامياً إلا مع ما تجمع الأمة على معاداته.أما ما عدا ذلك فمنهج الإخوان هو الرفق و الحوار و الشورى، و ذلك على الرغم مما يعتري التعامل مع بعض أفراد الإخوان من خلاف بين الحين و الآخر، فهم في النهاية جماعة بشرية تصيب و تخطئ، و لكن ما يميزها بحق هو الإجتهاد في الإصابة.
كما نعلم، في ظل الربيع العربي من تهاوي الأنظمة القامعة لشعوبها تتحمل الجماعات و الحركات التحررية، و على رأسها الإخوان، مسؤلية إصلاح ما أفسدته عقود الفشل و الطغيان.و من هنا فإن المصلحة الوطنية و القومية تقتضي التعامل مع الإخوان برؤية نقدية بناءة و هادفة و إسداء النصح بإخلاص لإثراء التجربة الإخوانية الداعمة لإعادة بناء الأوطان و تصحيح مسار الأمة على طريق النهضة و الأمان.و أؤكد هنا بأن الإخوان كظاهرة حضارية لا تقتصر على أفرادها و مؤيديها بل تشمل كل أجنحة الامة و مكوناتها و دياناتها و مذاهبها، بما يترتب على ذلك من مسؤلية مشتركة لدى الإخوان و غيرهم في الإنفتاح و التعامل للإبحار بسفينة الأوطان و الأمة في بحر عالمنا الجديد بعد أن تداعت فيه أقطابه و أفلست فيه كل الحلول التي قامت على إخضاع الشعوب و كسر إرادتها.
تقديم:
في محاضرة عن الشرق الأوسط إستعرض فيها المستشرق الأمريكي “باري برايسلر” الحركات و الجماعات المؤثرة خصص الجزء الأكبر من محاضرته للحديث عن جماعة الإخوان المسلمين.تقييم المحاضر اليهودي الإسم للجماعة كان أن جماعة الإخوان المسلمين تعتبر أكبر الجماعات في العالم، و ليس فقط الشرق الأوسط، تأثيراً و أوسعها إنتشاراً و أرقاها تنظيماً.
المحاضرة هذه كانت في جامعة و لاية سان فرانسيسكو في أوائل العام 1990، و قبيل دخول الجماعات الإسلامية عموماً، و الإخوان المسلمين على وجه الخصوص، مرحلة جديدة من التحديات تستوجب تطويراً في كل من الأداء و أسلوب الخطاب نظراً لخصوصية هذه المرحلة من حيث إستهداف المنظومة السياسية و الدولية للفكر الإسلامي و العمل الإسلامي و الجماعات الإسلامية.جاء هذا الإستهداف من خلال حملة عالمية على مستوى عالي من التخطيط و التنسيق و الإعداد لم يقابله في نظر الكثيرين نفس المستوى من الإعداد لدى الإسلاميين.
الحضارة بين التفاعل و الصدام:
نظراً للتباين العرقي و الفكري و اللغوي و العقائدي و الثقافي لدى مكونات ما يسمى بالمجتمع الغربي، يتحتم على قيادات المجتمع الغربي إصطناع رابط مشترك يعمل على توجيه الشعوب الغربية نحو هدف مشترك.ففي أوروبا، على سبيل المثال، كان المجال الإقتصادي و السعي وراء التنافسية الإقتصادية و زيادة مستويات الرفاه الفكرة الأساسية وراء السوق الأوروبية المشتركة التي تطورت فيما بعد إلى منظومة سياسية تتمثل بالإتحاد الأوروبي أو المجموعة الأوروبية. أما في “المجال الحضاري” فقد تحالف الغرب الرأسمالي الأوروبي و الأمريكي و من يدور في فلكهما ضد الجناح الآخر من الفكر الغربي المتمثل بالإشتراكية في دول الإتحاد السوفياتي و أوروبا الشرقية و من يدور في فلكهم.
منذ تسعينيات القرن الماضي أصبح العداء للمشروع الإسلامي و التهديد المزعوم لهذا المشروع الإسلامي “للحضارة الغربية” و “قيمها الإنسانية النبيلة” أصبح هو الأساس الذي تعتمده القيادات الغربية لصياغة الوحدة الوطنية و المشروع الوطني لدى الغرب.
أما الصين فهي حالة خاصة كقطب مستقل بذاته يتباين تأثيره على الساحة الدولية من إقتصادي و سياسي و ثقافي و عسكري، كما و يتباين من خلال درجة تفاعله مع المنظومة الإقليمية و الدولية.
الحرب ما بعد الباردة:
نعلم جميعاً تفرد الولايات المتحدة و المعسكر الغربي بقيادة العالم بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي و القطبية الثنائية في بداية التسعينيات.كما و نعلم جميعاً إستبدال الغرب للمشروع الحضاري الإسلامي كبديل عن المعسكر الإشتراكي في مفهومه للعدو الإستراتيجي، و ذلك كما ورد على لسان نائب الرئيس الأمريكي وقتها “دان كويل” و غيره الكثير الكثير من السياسيين و المفكرين و صناع القرار.
بطبيعة الحال أخذ إستهداف الغرب للمشروع الإسلامي منذ بداية التسعينيات أشكالاً غير مسبوقة من مواجهات عسكرية في العراق و السودان و الصومال و البلقان و الشيشان و غيرها، بالإضافة إلى تعزيز التحالف مع الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة في الدول الإسلامية و ما نتج عنه من تصعيد في إضطهاد الإسلاميين من إعتقالات و تضييقات و غيرها، إلى إدخال القضية الفلسطينية في منعطفات خطيرة من محادثات سلام وهمية تؤدي إلى ترسيخ الكيان الغاصب، إلى تجريم العمل الإسلامي و الخيري و ملاحقته في الغرب و على مستوى العالم، و غيره الكثير.
من هنا، فإنني لا أرى أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تمثل بأي حال من الأحوال منعطفاً أو تحولاً في علاقة الغرب بالإسلاميين، و إنما مرحلة جديدة من التصعيد و التخويف لإختراق الصف الإسلامي و إخضاعه.
متطلبات المرحلة:
كما نرى من الإستعراض السريع على مدى العقدين السابقين فقد حدث تغييرات جذرية في ظروف و طبيعة المواجهة و التعامل بين المشروع الإسلامي و غيره من المشاريع و تحديداً المشروع الغربي، و إنعكاس هذه التطورات على الساحة الداخلية للدول الإسلامية و على المنظومة الدولية الحاكمة أو الميهمنة.
و يبقى السؤال الأهم: ما مدى إستجابة و تطور الخطاب لدى جماعة الإخوان المسلمين للتغيرات في المناخ الذي تعمل به الجماعة؟
في تقييمي أننا لو نظرنا للخطاب التاريخي للجماعة منذ نشوئها نجد فيه بشكل عام إستجابة و تفاعلية مع الأحداث و الظروف، و بغض النظر عن إختلاف وجهات النظر بشأن الحكم على أدبيات الجماعة في الفترات و الظروف المختلفة فإن إزدياد عالمية الجماعة و حتى في فترة ما قبل السبعينيات يشير إلى وجود قبول عالمي لفكر الجماعة و أسلوب خطابها.
أما فترة السبعينيات فلربما تعتبر أكثر الفترات التي شهدت تطوراً في أسلوب الخطاب و مجاراة الواقع و الظروف المتغيرة، تبعها في نظر الكثيرين تراجع في أسلوب الخطاب و عالميته في فترة إتسمت بتصعيد دائرة الإستهداف و مستوياته من ناحية، و تعدد المتحدثين من “الأجيال الجديدة” من داخل الجماعة من ناحية أخرى.
إستراتيجية الخطاب:
لا بد أولاً من التمييز بين خيرية العمل و نجاعة الخطاب، بمعنى أنه لا يجب الإرتكان إلى خيرية العمل و إخلاصه كضمانة لنجاح العمل بغض النظر عن مدى حكمة أسلوب الخطاب و تطوره من عدمه.
فعلى الرغم من ربانية رسالة الأنبياء وإصطفائية الرسل فقد خص الله سبحانه و تعالى الخطاب بأهمية خاصة و بين فيها سبحانه خصائصه و مقوماته، فقال تعالى: “و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم.”
الدروس المستفادة من هذه الآية في الخطاب و أهميته و عناصره و أسلوبه و غاياته لا حصر لها، و سنحاول هنا التعرف على بعضها بما يعيننا في فهم إستراتيجية الخطاب المعاصر لهذا الزمان و أي زمان.
عناصر الخطاب:
نصت الآية على عناصر في الخطاب منها:
1. مصدر الرسالة أو منطلقاتها و مرجعيتها.
2. الرسول أو ناقل الرسالة أو المتحدث.
3. الرسالة أو مضمون الخطاب.
4. اللسان: و منه اللغة و الأسلوب.
5. الجمهور المستهدف: و هذا ما يمكن في التحليل المعاصر تقسيمه إلى تصنيفات عدة.
6. التأثير المنشود أو المطلوب أو المقاصد أو هدف الرسالة و الخطاب.
في حقيقة الأمر إن عدم إستحضار هذه العناصر جميعها و ما يقتضيه كل من هذه العناصر من الخصوصية في الصيغة و الطرح و الأسلوب هو المشكلة الكبرى في أسلوب الخطاب الإخواني في الكثير الكثير من الحالات.
و من الأهمية بمكان عدم التعميم عند الحكم على الخطاب الإخواني الذي يتصف عموماً بالحكمة و الملاءمة و التوفيق، إلا أنه في ظل مناخ الإستهداف الذي تعمل به الجماعة فإنه يكفي عدم التوفيق في تصريح أو حديث واحد لتسليط الضوء بعيداً عن أي توفيق أو إيجابية، و التركيز على الإخفاق و السلبيات.
و في الحقيقة أن إصرار بعض الإخوان على ضرورة أن يتحلى الإعلام و المتابعين لخطاب الإخوان من سياسيين و إعلاميين غيرهم بالموضوعية في الحكم على الخطاب الإخواني يعتبر بحد ذاته إخفاق و هروب من المسؤولية في كثير من الأحيان.
يعمل الإخوان في ظروف نعرفها جميعاً من الإستهداف التاريخي منذ نشأتها و التضليل الإعلامي و تشويه الصورة و غيره، إلا أن هذه هي معطيات يجب علينا جميعاً التعامل معها كحقائق واقعة علينا تقبلها و الإعتراف بها، و ليس بالضرورة قبولها، كمنطلقات ينبغي علينا تصحيحها و إزالة المغالطات بشأنها. أما الخطاب المتشنج و العنتري و المتخبط في بعض الأحيان فلا يجب أن يكون له وجود أو يسمح به لما يلحقه ليس فقط بالجماعة بل لا أبالغ إذا قلت في المشروع الوطني و الحضاري و النهضوي بل و الإنساني العالمي برمته.
الحل و الإبداع:
جرب الإخوان التدرب على الخطاب و أسلوبه و هو بحد ذاته جهد مشكور، إلا أن ما أراه أننا بحاجة أولاً إلى الإرتقاء بالفهم و الفكر و التفكير بحيث ينتج عن هذا جميعاً حلول إبداعية لمعضلة الخطاب لدى الإخوان.
التركيز هنا على “الحلول” و “الإبداعية.” إختص الله سبحانه في تكليفه لخير الأنام عليه الصلاة و السلام “و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، و هذا يترتب عليه إضافة عناصر أخرى للخطاب غير التي ذكرت عاليه.
مفهوم الرحمة هو مفهوم شمولي عالمي الطبيعة، و العالمين تأكيد على عالمية الحل و الرسالة، فإن قرنت الرحمة بالعالمين وصلت إلى لا نهائية في خيرية التكليف و أهدافه و مجالاته بل و أسلوب خطابه.
الطرح السابق ليس من باب التنظير و إنما دعوة ملحة لإمعان الفكر و التفكير و تحرير العقل و الإرادة من قيود فرضت علينا جميعاً قدَر الله بفضله و منه و كرمه وحده أن تنكسر ليخرج كل منا طبيباً إلى عالم من المرض و المرضى لا يعرف فيه سواه سبيلاً للشفاء.
السؤال لكل منا هو:
أي طبيب نكون؟
هل الطبيب العالم بطبه الذي لا يعرف طبه سبيلاً للعلاج؟
أم ما تعارفنا عليه عندما خلعنا على الطبيب صفة “الحكيم” الذي يعرف تماماً أن مهمته هي شفاء العالم الذي خرج إليه و ليس مجرد العلاج؟
بعد أن نستوعب جميعاً هذه المادة و نمعن فيها التفكير و نتفاعل معها إتفاقاً و إختلافاً و تعليقاً، يمكنني، إن شاء الله، طرح جرعة أخرى تشتمل على تفصيلات عملية لبعض ما تقدم كإستراتيجية للخطاب بشقيها: العملي و الفكري.
و الله من وراء القصد.