خارطـة طــريق مصــر ما بعد الثــورة
وثيقة إستراتيجية
بقلم نضــال صــقر
يسود المشهد السياسي الآن في مصر و خارج مصر جدل حول مصير ثورة الخامس و العشرين من يناير، و مخاوف مما يسمى بالثورة المضادة و إختطاف أو حتى إجهاض الثورة المباركة. و للوقوف على حقيقة ما يجري في الثورة و ما يجري لها لا بد أولاً من الإشارة أن ليس كل من يعلن تخوفه على الثورة مخلصاً لها أو يتمنى نجاحها، و ثانياً ان الأهمية الإستراتيجية للثورة تفرض علينا جميعاً التعرف على المشهد المصري السياسي و الشعبي و الرسمي، و مختلف الأطراف المعنية بالثورة و مواقف كل من هذه الأطراف و أهدافها.
أولا: الواقع المصري:
الشارع المصري:
قامت الثورة كما نعلم بسواعد شباب مصر على إختلاف أعمارهم و توجهاتهم و مستوياتهم التعليمية و الإقتصادية و الإجتماعية، لم أذكر هنا دياناتهم و طوائفهم لسبب بسيط بأن تعريف مصري أو قبطي يعني بالضرورة المسلم و المسيحي دونما حاجة لإشارة أو تنويه. و كان الدافع المشترك لشباب الشارع الذين قاموا بالثورة هو مصريتهم و إنتماؤهم و حبهم لمصر بغض النظر عن أي إنتماء سياسي أو تنظيمي من عدمه، و هؤلاء هم وقود الثورة و الرصيد الشعبي للثورة الحامي لإنجازاتها.
و هناك ما أصطلح عليه بالإئتلافات الشبابية و تتفاوت مشاركة أفرادها في الثورة و إن كانت بأي حال من الأحوال لا تشكل نسبة عددية كبيرة من ناحية المشاركة الميدانية.
هناك أيضاً النخب و الأحزاب و الجماعات السياسية و التي تراوحت مواقفها بين المشاركة الفاعلة و بين المقاطعة و حتى المتاجرة بالثورة.
و هناك أيضاً فلول النظام السابق و تنقسم إلى نوعين:
رموز و قيادات النظام السابق، و قد جرى ملاحقة أو محاكمة أو إعتقال أو منع سفر بعضهم في حين بقي أخطرهم حتى الآن بعيد عن الملاحقة.
و بقايا الحزب الحاكم و الذي يقدر عدد أعضائه بحوالي الثلاثة ملايين ترتبط مصالح أعداد كبيرة منهم بإنتمائهم للحزب، و يغلب على فئة كبيرة منهم الحرص على الحفاظ على هذه المكاسب من خلال إعادة تقديم أنفسهم في قالب جديد يحجز لهم مقعداً و مساحة في مصر ما بعد الثورة، و تتراوح هذه المساحة بين إختطاف الساحة السياسية و الإبقاء على المنظومة السابقة بقدر الإمكان، أو على الأقل شغل مساحة معينة تحافظ على نفوذهم و مصالحهم فيما بعد الثورة، بالطبع لا يمنع عند هذه الفئة التمسح بالثورة و شبابها و الإنقلاب على و القدح و الذم في أولياء نعمتهم من القيادات و الرموز السابقة للحزب الذين أسقطتهم الثورة. مصرية هؤلاء جميعاً بل و حتى وطنيتهم، حتى لو كانت حسب مفاهيمهم الخاصة بهم، تفرض على مصر الثورة سعة الصدر و العمل على التواصل و التفاعل مع غالبيتهم على أمل إنخراطهم في المشروع الوطني للثورة.
السلطة الحاكمة:
و تنقسم السلطة الحاكمة بين:
السلطة العسكرية أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، و هنا يجب مراعاة أن هذه السلطة معينة في ظل النظام السابق و إرتبطت به بصور كثيرة، و أن هذه السلطة تباينت مواقفها ما بين عدم الإصطدام بالشعب و حمايته، إلى إعتقال و تعذيب أعداد من الثوار لم يفرج عن بعضهم حتى هذه الساعة، و أن هذه السلطة تتأثر بمساحة معينة من التفاعلات مع قوى خارجية و تحديداً الولايات المتحدة، و أن هذه السلطة ما زالت تتحكم بمسار و مدى الإستجابة لمطالب الثورة، و أن هذه السلطة تقوم حالياً بدور الوصي الفعلي على مصر ما بعد الثورة. إلا أنه لا بد من الإلتفات إلى حقيقة مهمة و هي أن السلطة العسكرية كانت و ما تزال صمام الأمان للإستقرار المصري، و إلى حقيقة أن السلطة العسكرية هي التي حسمت قرار تنحي الرئيس السابق في الظروف التي تم بها تحت ضغط الشارع المصري و ثورته أولاً، و تحت الضغط الأمريكي الذي حسم موقفه من نظام مبارك و إستمراره في الحكم قبل نحو عشرة أيام من إعلان التنحي.
و ما يسمى بحكومة تسيير الأعمال المعينة أصلاً من قبل النظام قبل سقوطه و التي ما زالت فلول النظام السابق و رموز حزبه تحتل فيها مواقع رئيسية، حتى بعد التعديلات التي طرأت عليها. هنا لا بد من الإشارة بأنه ما زال هناك إرتباط بين رأس هذه الحكومة الإنتقالية و رؤوس النظام السابق، و أن تصريحات وزير داخليتها ما زالت تنم عن عداء للثورة و أبطالها، حتى بعد أن أصبحت الثورة محل إجماع الغالبية الساحقة للمصريين قيادة و شعباً.
و هنا لا بد من التطرق لتصريحين خطيرين لهذا الوزير يمثلان إساءة لمصر أولاً تاريخاً و شعباً لا يمكن تجاوزها، و ثانياً للثورة و الثوار، إذ أصر وزير الداخلية على ترديد الإسطوانة المشروخة عن تورط جهات غير مصرية في التخطيط و التحريض على الثورة، و الإدعاء زوراً بإحتجاز أعداد كبيرة من هؤلاء “المحرضين” في حوزة وزارته.
أقول هنا أولاً أن مصر و المصريين أكبر و أعرق من أن تتلمذ على أيدي غيرها و خاصة لما تتمتع به مصر و المصريين من تاريخ عريق و أستاذية في الإصلاح و التغيير و الثورات، و لن أتطرق إلى إستعراض التاريخ المصري للثورات و التاريخ المقارن بالمنطقة و العالم و هو ما يجب على الوزير أن يتعلمه قبل أن يحتل المنصب الحساس الذي عينه فيه الرئيس المخلوع.
ثانياً أن من يصر على إستخدام لغة التهديد و الوعيد لشباب مصر الأحرار لم يستوعب الدرس بأن مصر الثورة هي سيدة نفسها و صاحبة الشرعية و القرارفيما يتعلق بواقع مصر ما بعد الثورة، و أننا ما زلنا في مرحلة تطهير ما بعد الثورة حيث لا مكان لبوليسية النظام و إستعلائه، و بالمناسبة ما زلنا جميعاً ننتظر حل جهاز أمن الدولة المشؤوم و تصفيته و باقي أجهزة الأمن السياسي، و الإفراج عن جميع المعتقلين من قبل هذه الأجهزة أو المسجونين بأحكام من محاكم إستثنائية يجب حلها فوراً.
ثالثاً أن مصر اليوم هي أم الدنيا أكثر من أي وقت مضى، و أن العالم كله اليوم مصريون حيث بدأ النموذج المصري في الثورة، و كما تنبأنا منذ اليوم الأول، بدأ يسود العالم من الصين حتى الولايات المتحدة نفسها، و أن إدعاء وجود واحد أو إثنين من عدمه ممن لا يتقنون اللهجة المصرية بين شباب الثورة أو قريباً منهم كذريعة للإتهام بتورط جهات خارجية هو بالدرجة الأولة إهانة لمصر و للثورة و لشبابها و شهدائها، و إنتقاصاً من أستاذية مصر و ريادتها.
الولايات المتحدة:
و ما نعنيه هنا هو المشروع االأمريكي في المنطقة و ما يرتبط بالمفهوم الأمريكي للمصلحة القومية الأمريكية في المنطقة و يدخل ضمن هذا المفهوم المشروع الإسرائيلي و المصالح السياسية و الإقتصادية و غيرها.
لا بد هنا من التعرف على أهم العوامل المؤثرة في الموقف الأمريكي، و الإشارة إلى أن الطبيعة المؤسسية لآلية صنع القرار الأمريكي تتمثل في تفاعلات بين أجنحة مختلفة تتبنى مواقف متباينة و توظف مختلف الظروف و التطورات لتغليب موقفها، و أن القرار السياسي يكون عادة محصلة لهذه التفاعلات جميعها.
أهم هذه العوامل أن الأولوية المطلقة لدى صانع القرار الأمريكي هو الحفاظ على الدور الوظيفي لمصر الذي كان قائماً في ظل النظام السابق و القائم على خدمة المشروع الأمريكي و الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة و الذي يشكل المشروع الصهيوني بعداً هاماً فيه، و إن صعود هذه الأهمية بالنسبة للمشروع الأمريكي تتوقف على عوامل كثيرة أهمها التطورات على أرض الواقع و التفاعلات التي أشرنا لها. مدى قبول الإدارة الأمريكية بتراجع هذا الدور الوظيفي أو تغيره يتوقف على مدى إستقرار المصلحة القومية الأمريكية في المنطقة. بمعنى إذا تعذر إستقرار الدور الوظيفي هذا فإنه يتوفر لدى الإدارة الأمريكية قابلية لإعادة صياغة مفهومها للمصلحة القومية من خلال تصور آخر، و إن كان تحول كهذا يستدعي تغيرات جذرية في الحالة الراهنة.
واقع ما بعد الثورة:
كما أشرنا فإن النتيجة السياسية الرئيسية للثورة الأهم حتى الآن هي نجاح الثورة في تحقيق جزء من مطلبها الرئيسي الأول بإسقاط رأس النظام، و الذي تم بإنقلاب عسكري في ظل قرار أمريكي، بغض النظر عن وزن هذا القرار في الحسم و توقيته.
جاء الحسم و توقيته أو تأخير توقيته بالدرجة الأولى لتوصل قناعة لدى كل من الإدارة الأمريكية و السلطة العسكرية بإنتفاء البديل السياسي المصري المدني الذي يتمتع بدرجة مقبولة من الجاهزية و الشرعية الشعبية، و بالتالي الإستقرار، لملء الفراغ السياسي المترتب على سقوط النظام.
و في الحقيقة أن كل من الإدارة الأمريكية و القيادة العسكرية المصرية و حتى نائب الرئيس المخلوع كلهم بذلوا جهوداً مضنية لمحاولة إستكشاف بديل سياسي يتمتع بالشرعية الشعبية و فرص تحقيق الإستقرار السياسي من خلال التعرف و التحاور مع مختلف الأطياف المتاحة من ممثلي شباب و نخب سياسية و أحزاب، بل و حتى محاولة تلميع و إفراز قيادات جديدة و تأهيلها إلى حد ما، باءت جميعها بالفشل لإنتفاء البديل الجاهز، و من ثم كان لا بد من حسم الموقف بعد طول إنتظار بالإنقلاب العسكري الذي شهدناه.
الدرس الأهم الذي يجب علينا جميعاً أن نعيه من تجربة الثورة هذه أن هناك مساحة كبيرة مشتركة من المصالح بين الثورة و شبابها و عموم المصريين من جهة، و بين السلطة العسكرية الحاكمة من جهة، و بين الموقف الأمريكي المرتبط بالسلطة العسكرية و المتأثر بالشارع المصري من جهة أخرى، مع وجوب إستحضار المفاهيم المتباينة للمصالح و الحدود المتفاوتة لهذه المصالح لدى كل من هذه الأطراف.
سأستعرض هنا الشارع المصري و موقفه و تأثيره بالإضافة إلى الأطراف الأخرى، ثم سأوجه رسالة إلى كل من هذه الأطراف للخروج بمشروع الثورة و الوصول به إلى ما يحقق تطلعات الشعب المصري البطل و الأحرار أولاً، و مصالح و إعتبارات كل من السلطة العسكرية التي هي جزء أصيل و وطني من الشعب المصري، و الإدارة الأمريكية التي تحتكم إلى حد كبير إلى إعتبارات موضوعية في مفهوم المصلحة الإستراتيجية.
لا بد أولاً من الإقرار فعلياً بسيادة مشروع الثورة على مصر و شؤونها، و أن هذه السيادة تفرض إرادة الشعب على القرار العسكري و السياسي، و أن أي تحد للشارع المصري سيعني بالضرورة تطوير الثورة التي ما زالت قائمة، و في النهاية حسم الشارع المصري لقراره بغض النظر عن موقف السلطة الحاكمة عسكرياً كانت أو غيرها. و إذ نحن ما زلنا بصدد إستمرار الثورة من خلال المشروع الوطني بالحرص على إستقرار مصر و إقتصادها و إستمرار عمل الدوائر و المؤسسات و السير قدماً تجاه إستئناف الحياة الطبيعية، فإن حق الشارع المصري و تأكيده على الإعتصامات و الجمع المليونية غير قابل للإنتقاص أو الحظر من قبل أي جهة كانت حتى تتحقق جميع مطالب الثورة و يطمئن الشارع المصري إلى نجاح ثورته.
و هنا أوجه رسالتي إلى السلطة العسكرية بأن التحذيرات و التهديدات بل و تحرش أفراد الشرطة العسكرية ضد هذه التجمعات المشروعة، كل هذا لا يخدم المشروع الوطني و أن ما يخدمه هو تحقيق جميع مطالب الثورة التي أصبحت الآن مطالب الشعب المصري كله.
أما الإستجابة بالقطاعي لهذه المطالب فهي تعطيل للمشروع الوطني مع إعترافي بالقصور الموجود فيما يتعلق بالحلول و المشاريع السياسية لدى القوى المختلفة، و هو نتيجة طبيعية للتصحر و الحجر السياسي في ظل النظام السابق. مطلوب من السلطة العسكرية الحاكمة المزيد من الإستجابة الفعلية و الحاسمة لمطالب الشارع، بالإضافة إلى الصبر و التفهم و الدعم لإنضاج المشروع السياسي الوطني لدى مختلف القوى بشكل متوازن و متوازي يضمن التعددية و الحرية و الديموقراطية.
أما بالنسبة للإدارة الأمريكية، و إن كان هذا المنبر لا يرقى إلى كونه الأكثر فاعلية لإيصال هذه الرسالة، فمطالبة بإعادة صياغة مفهومها للمنطقة و شعوبها و كيفية التعامل معها و مصالحها الإستراتيجية فيها. هذا التصور الجديد و الأطروحة الجديدة موجودة و بكل وضوح لدى أجنحة مؤثرة في صنع القرار آن الأوان للإستماع إليها. و هنا لا بد من التحذير من خطورة اللجوء إلى التصورات و المفاهيم القديمة البالية بإمكانية إفراز نخب سياسية جديدة تتوافق و المنظور الأمريكي للمصلحة و الذي أثبت و مازال يثبت فشله، و أنه على الولايات المتحدة أن تقلع عن التعويل على واقع سياسي جديد يسمح بإستمرار الدور الوظيفي لمصر ما بعد الثورة محلياً و إقليمياً و دولياً.
رسالة أخيرة إلى جميع المعنيين، بأن أستاذية مصر و المصريين في التحول الحضاري من خلال الثورات أو غيرها حقيقة لا يمكن تجاوزها، تحت أي ظرف من الظروف. هذه الأستاذية و الثقل الإستراتيجي العالمي لمصر كمركز عالم ما بعد الثورة، كما كانت على مر العصور قبل العهد البائد، يفرض علنا جميعاً التعامل مع المشروع الوطني المصري و تضافر الجهود لإنجاحه و تنحية الأساليب البالية من التشكيك في الوطنيات و تقييم اللهجات و اللكنات و البشرات و الأسماء و غيرها من الممارسات الفاشلة و البالية في ظل النظام المخلوع و البائد.
إن نجاح المشروع الوطني للثورة هو بمثابة صمام أمان ليس فقط لمصر و المنطقة، بل لعالم جديد يسوده العدل و الحرية و الوئام و التعاون المشترك بين مختلف الشعوب لخدمة المشروع الإنساني العام و المصالح المشتركة المعبرة عن تطلعات و رغبات و صالح هذه الشعوب.
Comments
One Comment on خارطـة طــريق مصــر ما بعد الثــورة
-
احمد عماد on
Thu, 24th Feb 2011 4:55 am
لاشك ان المرحله القادمه هتكون صعبه وخاصة من المنافقين المتلونين امام الشارع المصرى لكنى متفائل فى ظل وجود التعاون الشعبى واتحاد كل الافكار كما كانت فى ميدان التحريرواتمنى استمرار هذه الوحده حتى تنفذ المطالب ووقتها ستضخع القوى الداخليه والخارجيه