العمل الإسلامي بين الجنوح و الطموح

May 7, 2008 by
Filed under: Articles, مقـــالات عربيـــة 

و خيار العمال بين الإستعمال و الإستبدال

بقلم د. نضال صقر

العمل هو ركن من أركان الحقيقة، فالعمل هو الوسيلة التي بموجبها تصبح الفكرة واقعاً و الخيال حقيقة.  و كما أن لكل بنيان أركان فكذلك العمل له خواصه و مقوماته و مفاهيمه و أطره، بل و أساليبه و نظرياته و أركانه.

العمل قد يكون صالحاً تغتني به البشرية و ينتفع به الخلق من بشر و كائنات و بيئة، و قد يكون غير ذلك إذا إنتفت المنفعة أو إذا شاب العمل أو نتيجته أو كليهما ضرر و إن كان فيه منفعة.  و هنا يخضع تقييم العمل لموازنة المنفعة و الضرر أو لتقدير المصالح و المفاسد.  إلى هنا يلتقي العمل على كافة صوره، إسلامياً كان أو غيره.

و تختلف معايير تقييم العمل بإختلاف معايير المقيم للعمل، فهناك معايير النفع و القبول و الجدوى و الضرورة و غيرها التي يخضع العمل لها في التقييم.

خصائص العمل الإسلامي:

وقع إختيارنا على العمل الإسلامي تحديداً في بحثنا هذا لأسباب كثيرة، أهمها أن العمل الإسلامي يتمتع دون سواه من الأعمال بأقصى درجات الوضوح في المعايير و أسس التقييم.  كما و يتمتع العمل الإسلامي بمنهجية فريدة في التصور تفتقر إليها التوجهات العملية الأخرى، و لعل بحثنا هذا يلقي الضوء على بعض هذه الخصائص.  و تدل تجاربنا في العمل العام في المجتمعات غير المسلمة بأن المفهوم الإسلامي للعمل يمثل قاسماً مشتركاً يلتقي عليه العاملون على إختلاف توجههم دون الحاجة لتصنيف العمل كإسلامي أو غيره.

نعلم جميعاً شمولية التصور العقائدي الإسلامي من حيث إنعكاس العلاقة الإيمانية بين الإنسان و خالقه على علاقة الإنسان بنفسه و غيره.  كما و نعلم الإرتباط الوثيق بين هذه العلاقة الإيمانية بالعمل الذي يترجمها إلى واقع.  بل و نهى الله سبحانه عن إنفصام القول عن العمل في قوله: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.  أما الدلالات من إستخدام التعبير الرباني: “كبر مقتاً” في تقرير خطورة الإنفصام بين القول و العمل فيحتاج إلى أبحاث و تفصيل لا قبل لنا بها في هذا المقام.  و إن في قوله صلى الله عليه و سلم: “الإيمان ما وقر في القلب، و صدقه العمل” ما يغنينا عن شرح إثبات حقيقة الإيمان و إستحقاقاته من عمل.

فيشترط للعمل الإسلامي أولاً أن يستند إلى قاعدة إيمانية، ثم يتبعها النية و إستحضارها.  و النية و إن كانت أساس كل عمل فإن دوام إستحضارها و مراجعتها يمثل أخطر التحديات التي يواجهها العامل.  فكثيراً ما تبدأ الأعمال بعقيدة إيمانية راسخة و نية خالصة ما يلبث أن يخالطهما أهواء و دوافع أو إفتتان بالنفس أو عصبية أو قبلية أو تعصباً لرأي، أو حتى حساسيات و نزاعات تخرج بالعمل عن مساره الذي بدأ عليه من حيث لا يدري العامل.

ثم يأتي بعد ذلك التخطيط و الإعداد، فبعد يقين العامل بأن الله وحده هو مسبب الأسباب، يأخذ العامل بهذه الأسباب و يعد العدة و يتحرى الإتقان في العمل لبلوغ الأهداف.  أما التخطيط و الإعداد فهو من أخطر أبواب العمل حيث ينبغي على العامل فهم الواقع بأبعاده و تقييمه بشكل دقيق للتعرف على أهم التحديات و الإحتياجات، و من ثم تحديد أولويات العمل، فلا ينبغي إستغراق العامل بالتجميل و التحسين إن كان هناك شح و تقتير.

فإن وجدت عليلاً في صحراء جدباء على وشك الهلاك، قدمت إليه رشيفات من الماء من غير إسراف، و بعد أن تروي ظمأه تقدم إليه لقيمات يسترد بها عافيته، ثم تشخص الإصابات و الأمراض التي يعاني منها العليل فتتعرف على ما يحتاجه من دواء و علاج، ثم تقدم له الكساء و الملجأ، و بعد ذلك تقدم له التعليم و العناية الطبية و غيره من تحسين ظروف المعيشة و الخدمات.  كل ذلك من البديهي بما ينسجم و المنطق و طبيعة الخلق و البشر، و لو بدأنا بالخدمات و التعليم لهلك العليل و لإنقطع منا العمل.

و كذا حال الإنسانية اليوم عليلة سقيمة حائرة، عطشى و قد جرت من تحت أقدامها الأنهار، جوعى و قد فاضت من جنائنها الثمار، عليلة و قد زخرت مصحاتها بالطبيب و العقار، تكشفت عوراتها فلا يكسيها رداء أو إزار، تئن إلى الله من ضياعها لا يريحها ليل أو نهار، تشكو إلى الله أمة موحدة تجاوزت المليار، و نئن نحن الموحدون نرجو رحمة العزيز الغفار، منا العاملون و منا القاعدون و منا من في أمره نحار، فلا سقينا عليلاً و لا سقيماً شفينا، و لا نجينا من حساب الواحد القهار، عن كل نفس أفلتت من رحمته، عن كل جائع و يتيم و فقير و ضال و مستنقذ بإنتحار، و أجدادنا بكوا لدابة عثرت في قاصي الأمصار، حملنا أمانة أشفقت منها السماوات و البحار، فكان في الأمانة مصيرنا إما إلى جنة أو إلى نار.

و لعل أهم ما يتفرد به العمل في الإسلام هو خاصتي العالمية و الخيرية.  فخيرية العمل الإسلامي مفهوم شمولي ينبثق من التكليف الأساسي للإنسان بعمارة الأرض بمعنى تحقيق الخير لكل ما هو موجود.  فلا تقتصر خيرية العمل على منفعة لجماعة بعينها أو أصحاب عرق أو ديانة، أو حتى لأمة دون أمة، بل أن خيرية الإسلام عمت الحجر و الشجر و سواهما من الخلق من البشر و غير البشر.  و ما كان رسول الله محمد “إلا رحمة للعالمين” عربيهم و أعجميهم، موحدهم و مشركهم، فقيرهم و غنيهم، رئيسهم و مرؤوسهم، بل شقيهم و سعيدهم.  و يحضرني هنا إحدى مشاركاتي قبل نحو عقدين في ندوة عن الأديان ضمن مؤتمر دولي للبيئة بجامعة كليرمونت الأمريكية، ففي الوقت الذي إستغرق فيه الباحثون و علماء اللاهوت و الذين كانوا يمثلون أكثر من عشرين ديانة و مذهب في محاولة إثبات صحة معتقداتهم دون سواها من الديانات، و إستغرقوا في مناظراتهم حوالي الساعتين، إكتفيت بدقيقتين لأسرد لهم قصة الأعرابية التي إهتدت إلى الله بفطرتها، لأذكرهم بأن الإسلام و خيريته ما هما إلا الفطرة التي جبل عليها الإنسان.  فلم يملك المنظرون، و كان معي وقتها أستاذي الجليل الدكتور حسان حتحوت، إلا أن يقروا بإنسانية الإسلام دون سواه من العقائد و الأديان.

فخيرية الإسلام و عالميته ليستا بحاجة إلى إثبات، و إنما يحتاج كل مسلم و عامل أن يتعرف عليهما كأساس في الإعتقاد لا بد و أن ينبني عليهما أي عمل.  من هنا تأتي أهمية إيمان العامل برسالته في نجاح العامل و إتقانه.  و بذا يرقى الفهم و الإتقان إلى تحقيق الإحترافية في العمل و الأداء.  و لست أرى أبلغ من قوله جل و على: “و من أحسن قولاً ممن دعا إلى الله و عمل صالحاً و قال إنني من المسلمين” لتبيان فضل العمل و رقي رسالة العامل.

العمل يبدأ بالعامل و إعداده، ثم التعرف على الواقع و تحديد أولويات العمل، و هذا بدوره يحتاج لبعض من العلم و الإدراك لتقدير المصالح و المفاسد، على أن لا يضيع العمل في تنظير و صفصفات تحبس الفكر بعيداً عن ميدان العمل.  ثم بعدها يظهر التمايز بين العاملين في أدائهم و طاقاتهم و قدراتهم، يتلوها وضع كل عامل في العمل الذي يتميز به عملاً بقوله صلى الله عليه و سلم: “إعملوا فكل ميسر لما خلق له”

ينبثق عن التمايز في العمل، أيا كان، تمايز في الإدراك، و من الإدراك أن ترى الواقع في منظار إستمرارية الحياة و ديمومة الخيرية إستحضاراً لقوله صلى الله عليه و سلم: “لو قامت الساعة و من كانت بيده فسيلة فليغرسها”، و ذلك دون أن نؤجل إستحقاقات العمل و الإصلاح و البناء حتى قيام الساعة.

إنه من اللازم أن يلتفت العاملون لمعالجة أحوال المسلمين، على أن لا يغفل عموم المسلمين عن تقديم الحلول لما يعانيه غير المسلمين، على إختلاف مستويات المعاناة و الإحتياجات.  فقد يرى بعض العاملين أولوية أن يقتصر العمل مع غير المسلمين على إغاثة الملهوف، و في هذا مخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه و سلم حين دعا كبراء أهل مكة.  و قد يرى البعض إقتصار العمل على إستقطاب أهل النفوذ و السطوة، و هذا ما عاتب الله فيه رسوله في سورة عبس.  فتقدير الأولويات لا بد و أن يستند إلى الوسطية في الحلول لتحقيق أكبر قدر من الشمولية و أعظم درجة من الخير و أوسع دائرة من المنفعة، و لا يضيرنا هنا أن نبدأ البحث في موضوع “إقتصاديات العمل الخيري” كباب من أبواب الإقتصاد في الإسلام بحيث تشتمل دراسات الجدوى للمشاريع الخيرية على تقدير المنافع الإيمانية و الإجتماعية و الخيرية بالإضافة إلى الحاجة و الإلحاح، كمؤشر لأولويات المشاريع.

أما عن فريضة الدعوة إلى الله، فقد أجمعت الشواهد كلها أن الإسلام ليس بدين تبشيري كغيره من الأديان، وأن أبلغ دعوة و أنجحها أن يصدق المسلم خالقه فيصدقه خالقه، و أن يترجم إدراكه لهويته في سلوكه و نظام حياته.  و لو نظرنا في أنفسنا لوجدنا في بعض دعاتنا من هم في أمس الحاجة إلى الدعوة، و في عاملينا في الإغاثة و الحوار من أهم في أمس الحاجة لإغاثة أنفسهم و محاورتها.  و قديماً قيل: “فاقد الشيء لا يعطيه” و إن كانت الخيرية في الإسلام إلى يوم الدين فلا خير في المسلمين إن لم يعيشوا إسلامهم واقعاً و هوية، ثم يتخذونه سبيلاً إلى غاية، ألا و هي أداء ما عليهم من أمانة.

و من الطريف أن مدارس التربية الحديثة وجدت أن إسناد المسؤوليات إلى الأفراد من أنجح و سائل التأهيل أو إعادة التأهيل في مختلف المجتمعات على إختلاف المشكلات و الأعمار، فلا غرو أن الله جعل أساس خلق الإنسان في تكليفه، و جعل في تكليفه فلاحه و منجاته.  من هنا فالمسلم أقدر الناس على التميز و النجاح حيث جبل على إدراك مسؤولياته و الغاية من وجوده و خلقه.  و لطالما أدهشني مدى إندهاش غير المسلمين لسماع هذه الحقيقة التي تعود كثير منا الإهمال في أداء إستحقاقاتها.

العمل الإسلامي و دوره في تأهيل الأمة:

نخلص هنا إلى أن العمل في المفهوم الإسلامي هو شطر الإعتقاد، فلا إيمان بلا عمل، و لا خير في مسلمين إن لم يكن فيهم عاملين.  و إن كانت إختلفت مستويات المسؤولية و طبيعتها في العمل تبعاً لدرجات الإختصاص و التفرغ، فإن نوعية العمل و أداءه لا بد و أن تتسم بالإحترافية و الإتقان، و أن تتصف بالخيرية و الرحمة، و أن تتحلى بالعالمية و الشمولية.  و كما كان أسلافنا رسل خير و حضارة لسائر البشر فإني أرى في المسلمين و إن ساءت أحوالهم، و تآكلت حصونهم، و دكت عروشهم، و سلبت أوطانهم، فإني أرى فيهم البلسم الوحيد للبشرية للنهوض مما إعتراها، و للخروج بالإنسانية من أزماتها و معاناتها.

و لعل في معاناة المسلمين اليوم نعمة و رحمة، و لعل في هذه المعاناة تذكرة للمسلمين بأماناتهم و عبرة، و لعل وعيهم بمسؤولياتهم مدعاة لأن يعملوا للنجاة بأنفسهم و غيرهم، فيصلحوا من دنياهم و أخراهم، و يبلغوا من رضا الله غايتهم، و من جناته منتهاهم.

و ختاماً يجدر بنا أن نتذكر جميعاً أن العمل و إن كان فيه قضاء لحاجات العباد، و تحقيق لمصالح البلاد، و درءاً للشرور و الفساد، فإنه معذرة للعامل أمام خالقه، و منجاة له مما إقترفت الجوارح و الأياد.

و واقع التجربة يثبت لنا مراراً و تكراراً أن الدين دائماً إلى إنتصار، و أن الباطل و شقاء العباد أبداً إلى إندحار.

أما المسلمون، فبين الإستعمال و الإستبدال ترك الله لهم الخيار، و هو الغني عن العالمين جميعهم الخيار منهم و الشرار: “و إن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.”

Comments

Comments are closed.